سيارتها

سيارتها

بقلم :: إبراهيم عثمونة 

اختبروه ووعدوه إن هو نجح سوف يعطونه ما يريد ، في حين ظل هو مبتسماً وهم يحجبون نظره بقطعة قماش . لن يرى شيئاً ولا حتى سيعرف المكان الذي سيقودونه له ، لكنه كان يعلم أن الاختبار سوف يكون في صوت سيارتها ، ويعلم انهم سوف يضعونه في طريق مجهول ويطلبون منه أن يُميز صوت سيارتها من جملة أصوات السيارات ، فوافق على شرطهم.

كان “مسعود” يراهن على قدرته لا على معرفة صوتها من جملة أصوات النساء وحسب بل حتى على معرفة صوت سيارتها من جملة أصوات السيارات . أخبرهم ، حتى لو مرت سيارتها خلف ظهره في أي مكان من هذا العالم سوف يعرف أن هذا الصوت هو صوت سيارتها ، وأخبرهم لو أن عادم سيارتها اختلط في عوادم القاهرة فسوف يعرف أنها في القاهرة.

لم يصدقه أحد.

الكل سخر منه ، في حين ظل هو يُقسم لهم على كل شيء ، ولم يصدقوه.

ثم وهم يحجبون ويربطون عينيه بقماش اسود ، أخبرهم أنه لا يرى بعينيه ، ولا حاجة له بعينيه ، وبعد أقل من نصف ساعة تمويه ولف ودوران بالسيارة وضعوه أسفل كوبري من كوبريات السريع بطرابلس وسألوه.

  • هل تستمع لصوت السيارات التي فوق الجسر ؟

  • نعم اسمع.

  • وهل تستطيع أن تُميز صوت سيارتها لو مرت من فوق الجسر ؟

  • نعم استطيع.

  • إذن انتبه واسمع وميّز يا مسعود ههههههههههه.

ضحكوا جميعاً في مرة واحدة ، وابتسم هو لهم.

اعطوه كرسياً ليجلس عليه فنحى عنه الكرسي وظل واقفاً يدير رأسه وسمْعه بلطف في كل الاتجاهات . كانت أصوات السيارات المسرعة فوق الجسر تُشبه بعضها إلى حد بعيد سوى في السرعة ، وكان هو لا يستمع إلى اصوات السيارات حين طفق يتأهب ليقفز ويقول لهم شيئاً ثم ما يلبث أن يتراجع في آخر لحظة ويسكت ويعود لحاله الأول . سألوه.

  • لماذا تفعل هكذا ؟!

  • لأن السيارة التي فاتت تُشبه سيارتها لكنها ليست سيارتها.

  • وكيف عرفت ؟

  • هذا هو السر الذي حتى لو أطلعتكم عليه فلن تذوقوه.

  • لماذا لا نتذوقه ؟

  • لأنكم لم تمروا به.

  • أنت مجنون هههههههه.

  • نعم مجنون.

وفي لحظة كأنها ومضة لمحوه وهم يتجاذبون أطراف الحديث ، خال لهم كما لو أن شيئاً مسه . لم يسألوه بادئ الأمر لكنهم وقفوا واقتربوا منه لعله يصلهم شيئاً مما وصله.

قطعوا حديثهم ، ووقفوا إلى جانبه لعلهم يتلمسوها مثله ، فقد بدا واضحاً أنه استشعرها في الطريق خاصة حين أعطاهم ظهره وولى وجهه صوبها . سأله واحد منهم.

  • هل اقتربت سيارتها ؟

  • أظنها كذلك.


  • كيف عرفت ؟

  • هذا الذي حتى لو أطلعتك عليه فلن تتذوقه.

  • لماذا ؟

  • لأنك لم تمر به.

  • وما أدراك ؟

لم يجبه بشيء ، لكنه مد يده ونحاه عن أمامه حتى لا يشوش عليه ، أو هكذا ظنوا حين شاهدوه يزيحه من أمامه ويتقدم خطوة وأسارير جبينه التي تعلوا قطعة القماش تنفرج ثم تضحك.

لأول مرة يشاهدون ويسمعون جبيناً يضحك.

حتى أنا حين اخبروني بالقصة تعجبت.

قالوا لي إنه لم يفتح فمه ولا حتى ابتسم بل ظل زاماً شفتيه وجبينه يقهقه . جاءوا ووقفوا أمامه وجبينه يضحك من فوق القماش الذي يحجب عينيه ، في حين امتدت يد واحد منهم تتحسس جبين مسعود الرحب الذي يضحك.

طلب منهم أن يفكوا قيده وينزعوا قطعة القماش عن وجهه ، لكنهم ذكّروه أنهم اشترطوا عليه منذ البداية أن اختبارهم له سوف يتم بهذين القيدين ، فصمت ، وأخبرهم أن سيارتها على بُعد أقل من كيلو متر عن الجسر . قال ذلك وأشار هازاً رأسه إلى الجهة التي سوف تصعد منها سيارتها.

  • ما أجمل ما يشعر به مسعود.

هذا ما قاله أحدهم حين امتدت يده تتحسس جبين مسعود الضاحك ، في حين صمت مسعود تماماً عن الكلام وحتى عن الضحك ، وحبس أنفاسه ساعة وضعت السيارة عجلاتها على بداية الجسر ، وصمتوا هم ايضاً وحبسوا انفاسهم وأرهفوا سمعهم كما فعل مسعود وصاروا ينصتون لموسيقى عجلاتها على بداية الجسر.

انحنى مسعود حتى كاد وجهه يلامس الأرض وهو ينصت لعجلاتها فانحنوا هم أيضاً مثله حتى كادوا يلامسون الأرض ، وظل لأقل من دقيقة على هذا النحو فظلوا لأقل من دقيقة ، ثم استقام فاستقاموا خلفه وشعروا كما لو أنهم يمارسون شعيرة من شعائر الحب ، وقف على طوله فوقفوا وراءه في مشهد كما لو أنه يؤم بهم الصلاة ، وحين اعتلت سيارتها ظهر الجسر رفع مسعود رأسه كما يرفع المسلمون رؤوسهم بعد نهاية الصلاة . وشوهدت دمعة تجري من تحت القماش وتقع على الأرض ، فعصروا دموعهم لعلها تخشع وتسح شيئاً ، وسُمع حينها صوت السيارة يميل على اليمين ويقف في نهاية الجسر.

لا أحد عرف لماذا وقفت سيارتها.

لكنهم جميعهم كانوا في حالة ذهول حين تركوا مسعود تحت الجسر وركضوا إلى أعلى ليتأكدوا إن كانت هي أم لا !

لم يهتم لأمرهم ، كان فقط يريد منهم لو يفكوا ويحرروا يديه لينزع هذه القماشة السوداء . لا يريد مكافأة ولا يريد منهم شيئاً سوى أن يأخذوه ليركب معها حتى لمسافة أمتار ثم ينزل . نادى عليهم , اخبرهم بطلبه ، لكنهم تركوه وصعدوا وصعد هو خلفهم يقوده حسه لا عينيه.

تعثر في طريقه وهو يصعد بمحاذاة الجسر.

وقع وسال الدم من أنفه.

لم يكترث للدم ، كان كل همه لو يركب معها حتى وهو مكبل اليدين ، بل حتى وهو مغمض العينين . وقف ، وواصل يمشي والسيارات التي تحاذيه من اليمين تدخل الطريق السريع.

لا أحد يعلم لما وقفت سيارتها . حتى هم الذين تركوا مسعوداً في قيده وصعدوا على عجل لم يلحقوا بها . أدارت عجلات سيارتها وفاتت . لم تنتظر أحد ولا أظنها شاهدتهم اللهم على مرآة سيارتها الداخلية ، لكن الكل مُجمع أنها استشعرت شيئاً تحت الجسر ، وإلا ما معنى أن تقف وتتلفت على كل الاتجاهات وتذهب.


بعد أيام رأي سيارتها في الورشة . كان ماراً من الطريق العام حين لمح من باب الورشة سيارتها التي لا تُخطئها عينه . وقف وتراجع للخلف قليلاً ليتأكد . وبعد اقل من ساعة أرسل مَن يشتريها له ويعطي في هذه السيارة العاطلة سعراً مضاعفاً ويجرها له إلى مكان في مزرعتهم ، وفي المساء شوهد الرجل هناك يتمسح على السيارة كما لو أنه شيعي يتمسح بمرقد الحسين.

كنتُ واحداً من هؤلاء.

قيل لنا أن مسعوداً يتمسح على السيارة كما تفعل الشيعة ، فأسرعنا لنرى هذا الشيعي ، وحين اقتربنا من سور المزرعة الخارجي اشار لنا اخوه بيده بأن نسكت ولا نصدر أصواتاً ، ومن فتحة بين أشجار الطلح التي تُطوق المزرعة شاهدنا المسكين يُقبل زجاج السيارة من كل جانب.

لا أنكر انني تعاطفتُ معه.

كل الناس كانت تعلم انه يحبها ، لكن لا احد كان يعلم مقدار حبه له.

وقفنا خلف الطلح نتابع المشهد ، وشهدناه يفتح باب السيارة ويُقبل مقعد السائق . اعاد الباب بلطف وأخذ دورة على السيارة ليدخل ويركب من باب الراكب ، ثم شاهدنا المسكين يركب إلى جانب مقعد السائق ويتحدث معه ، التفتنا إلى أخيه الذي كان بيننا فوجدنا عينيه تسح بالدموع على أخيه ، في حين ظل المسكين يتحدث مع السائق ويصلح من جلسته ويعيد الباب عليه وهو في الداخل ، ثم صار يهز السيارة ويتوهم أنه راكب إلى جانبها وهي تقود السيارة ، وحين وصلا المكان المزعوم فتح بابه ونزل وأخذ دورة ليفتح لها الباب ، وشهدناه يفتح لها الباب ويدعوها للنزول.

الكل كان يعلم انه يحبها ، لكن لا احد كان يعلم مقدار حبه لها.

ومازال المسكين ، وبعد مرور أكثر من عشرة سنوات يقوم بغسل السيارة مرة بعد مرة ، وما زال كل مساء يركب معها ويهز السيارة ، وما زال حين يصلا المكان المزعوم يُسرع ويفتح بابه وينزل ويأخذ دورة ويفتح لها ويدعوها للنزول.

 

 

 

 

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :