شيء من دفتري الهولندي 

شيء من دفتري الهولندي 

تَنّوَه  ” مايشبه ترسب التجارب والمعرفة ”

سعاد سالم

soadsalem.aut@gmail.com

كيف يبدو اليوم؟

أفتح عين واحدة أتلمس بنظري الجدار الرمادي  واللوحة المربعة ذات الريشات الثلاث المتلائمة مع الستائر، ثم أفتح عيني الثانية مثل طائرة تنزل عجلاتها ورويدا نحو المهبط ، يستقر وعيي على الفراش الوثير المحشو جيدا بأحلام أراها كلما أقلعت في النوم ، ولأنني صرت متزمتة  حيال بعض العادات ،لم  ألتقط موبايلي كأول نشاط صباحي ،أمر بالمرآة على باب كامل من الخزانة النابتة في الجدار ،أدقق في مظهري ثم صوب المطبخ أضع ابريق الماء على “الأون” وفي الأثناء أدعك أسناني  ، حمام على طريقة الخمس دقائق الهولندية ،أصفف شعري ،وأكون جاهزة للقفز في النهار.إن لم أضعه في أعلى الجدول اليومي حتى قبل القهوة  ،سيسقط اليوم في مثلث برمودا “السرير ،المطبخ ،والحمام ” ، تقف عند النافذة أول ماتفتح عيونها ،تقول هدى من زمن الثانوي ،نافذة شقيقة صديقتي تفتح في زنقة أسواق الجندي قبل أن تصبح شيئا ما لاحقا ، تنظر من الدور الثالث  أبعد من الإشارة الضوئية ،لعلها تحلق أبعد من فشلوم وزاوية الدهماني ، نتعاركو يوميا ،تضيف :عليها تمشيط شعرها أولا ، أتذكر وجه هدى أحيانا والمشط يمر صباحا في شعري .

لم نكن في منتصف الثمانيات البائسة نعرف شيئا عن تنمية الذات ،لكن من يتحدثون عن رفع الاستحقاق اليوم ،حتى لو كانت مفرداتهم متكلفة غير أنها صحيحة وهي تمشي في حكمة الكلمات البسيطة والعميقة لجدتي “عز نفسك يعزها الله”  ،الله الذي يقول الحلاج أنه داخلنا ، فالعقل الباطن سيترجم احترام الذات إلى إستحقاق نتلقاه في صورة ما ، عِزّ فعل أمر وتعني أَحِبْ  ،زمان اعتقدتها مشتقة من العزة ،ربما بعضكم مازال يظن ذلك .

شعري في أفضل هيئة ياهدى ،وماعدى ذلك فكله يتم في رمشة عين ،أختار السراويل والجينز تحديدا وكما دائما بعد أن أكوم بعض المقترحات من الفساتين والغونات وبلوزات بلا أكمام ، أعود المرة تلو المرة إلى مظهر واحد أو إثنين على الأكثر بينما أقف في المكتبة أعيد الكتب إلى أماكنها، أو أجر العربة مع قلم وورقة عليها أسماء كتب حان وقت التخلص منها ،أريدُ قطاً ،قلت وأنا أتفرج على قط ناتالي على هاتفها ، ضحكت ريتن  ، سيدة هولندية من هنود سورينام ،تخطت الستين بقدها الصغير بينما تُكدس الكتب المُعادة للتو ،وفي غير لامبالاتها المعتادة وجهت نحوي السؤال : أقنعتك ناتالي ،أدخلتكِ مجالها ؟، حركت ناتالي رأسها ،لا لا لاعلاقة لي مؤكدة أنها لم تقنعني بشيء ،لم أهتم حقا ففي الغالب أنا شخص ملاحق بالانطباعات والتصورات المسبقة ، ربما أنا صامتة أكثر مما يجب ،ومن السهل ملء الفراغات في حديث مفترض.

سأسأل !

اقرأ العناوين واتأمل الكتب فوق حاملات شفافة ،موضوعة بالعُرض فتؤدي وظيفة أخرى ، تسند صف الكتب المرتبة حسب الحروف الأبجدية للكتّاب ، لم يأخذ مني وقتا طويلا ، فهم النظام الذي تصنف به الكتب ، أنواعها وأماكنها ، ربما ناتالي لم ترغب في شرح القصة وراء آلية تمييز الكتب عقب وضعها في الفتحة الخاصة بالإسترجاع الآلي ، حين يسقط بعضها في العربة على اليسار والآخر في العربة على اليمين ، ونقوم بتصنيفها لاحقا، ولشخص مثل ناتالي سؤالي عن كيف يميز الجهاز الكتب !

 كان مثل ال”يّس يمّ” العسكرية حينما يتعرف المجند لأول مرة على مشيته ،شيء يقوم به تلقائيا فيصير فجأة قانونا مربكا ، في الثانوي بمدرسة علي سيالة  بساحتها الأمامية المرصوفة ليسمع العسكري صوت أحذيتنا فوق البلاط ، نضحك على بعض البنات يسرن يدٌ يسار مع رجل يسار ، كتب العربة اليسار نمررها الواحد تلو الآخر على جهاز مسح صغير ومع الكوبون تتحدد اسم وجهتها ، أما الكتب في العربة على اليمين فهي لإعادتها إلى الأرفف الخاصة بها حسب التصنيف ثم حسب الحرف الأبجدي للكاتب أو للموضوعات ، كما هو الحال مع الكتب تحت خانة  المعلومات “انفورماتسي” مميزة بخزائن مصفوفة بالعرض في مكتبة لومبرداين مطلية باللون الأخضر الفاتح وطبعا يافطة ، ولاحقا فهمت السر وراء هذا التمييز الذكي، فالكود الموضوع على كل كتاب هو الذي تطلب به حينما يرغب قارئ ما استعارة الكتب ، أتمتعُ بكل الأعمال في المكتبة العامة ، كل التفاصيل تقريبا ماعدا شيء واحد ، أن لا أفهم استفسار أحدهم ، حتى استخدمت جملة سحرية تقول: سأسأل زميلتي ! و هذه إجابة أثارت حيرتي منذ أول مرة التقيت بها ، وحتى صارت تجري على لساني في البداية ببعض الخجل ثم أقولها تماما كما تفعل ريتن حينما تستعين بمونيك ، سأسأل زميلتي ، واتجهت ريتن صوب مونيك المنهمكة في لمّ الكتب من

تلك العربات على اليمين وعلى اليسار لنتولى أمرها حينما قاطعتها : هل من الممكن استلام هذه الهبة من السيدة ، مشيرة إلى شنطةُ كُتبْ بين رجلي السيدة  بناءا على إعلان عن قبول الكتب المستعملة ، تقلّب مونيك الكتب فيما توجه كلامها لصاحبة الهبة : كتب جديدة ورائعة ، ولكن عليك تسليمها إلى مكتبة روتردام سنترال ، كانت هذه السيدة قد وقعت عيناها العسليتان عليَّ ، كنت هناك قرب منطقة الإستعلامات ، وقالت بكل فخر ، لدي هدية “خيسخينك” ، بحثتُ عن المفردة اللعينة في رأسي ؟ ثم هبطت الجملة السحرية : سأسأل زميلتي .

الأنبياء

وهكذا مع حقائبي ، وأفكاري وأوراقي الثبوتية هبطتُ أيضا بكل ثقافة مجتمعي الذي لا يقول : لا أعرف ، لاتعرف يعني أنت محل سخرية ، أيعقل أنك لاتعرف ، هذا ألطف رد إن لم يكن مصحوبا بضحكة حبور طويلة  ،حينما تلقي بسؤالك عن شيء لاتعرفه ، نادرا ما يرد شخص صالح بكل بساطة على ذاك السؤال الما، نحتاج للأنبياء في هذه البلاد ، الكثير منهم ،أما في صف اللغة كارين معلمتنا بجامعة فوكس “مدرسة خاصة” تقول لا أعرف حينما يطرح اونر سؤالا عن قاعدة في اللغة الهولندية التي تدرسها لنا ، ترفع كتفيها الضيقين وتلم يديها معا أمام صدرها وتقول لا أعرف ،هكذا ببساطة كما تضحك ، ثم تضيف :سأبحث وفي الحصة القادمة سنرى ، كارين تواصل حصتها ولا شيء يقع منها أبدا، بما فيها هيبتها كمعلمة.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :