شَاهِسْةَ أحمد خانم (مسيحٌ جديدٌ)

شَاهِسْةَ أحمد خانم (مسيحٌ جديدٌ)

نبيل قديش                 

1

أُطاردُ شبحاً يُدعى أحمد حسن ريزوي!

قيلَ إنّه يقيم في “مُوردَكِي”، وقِيلَ أيضاً إنّ مكتبه في مدينة لاهور، بيد أنّه كثير التردّد على العاصمة إسلام أباد، يتنقّل منها وإليها عبر أقاليم البلاد المختلفة بوتيرة يعجز على مجاراتها حتّى الميكروباص المجنون للعجوز كرم إلهي.

 الحقيقة أنّ الرّجلَ يشبه الرّيح التي تعصف من كلّ الاتجاهات.

 لا أحمل عنه صورة واضحة المعالم، فأنا لم ألتقيه في السّابق، ولا رأيته على شاشات التلفاز كما رآه النّاس. أتسلّحُ بالكثير من الأوصاف التي جمّعتُها ممّن أسهبوا في سيرته، بمجرّد أن حكيتُ لهم عن مصيبتي التي أعياني البحث لها عن حلٍّ. أشاروا إليه قائلين، كلّهم بلا استثناء:

–         عليكِ بالسيّد أحمد حسن ريزوي!

قالوا أيضاً إنّه رجل مهمٌّ، وصاحب حلّ وعقد في الأمور كافّة، فهو إلى جانب مهنته كمحامٍ ذائع الصيت، ناشط مدنيّ وذراعه طويلة، وممدودة في محافل السياسة في باكستان بأسرها. أنا امرأة بسيطة، ساذجة غالبيّة الوقت، ولا تفقه ذلك الكلام الكبير، لكنّني وثقتُ بالرجل وآمنتُ به مخلّصي قبل أن ألتقيه! وماذا عساي أفعل وأنا المرأة مهيضة الجناح، قليلة الحيلة!؟

 سمعتُ أفواهاً لا تُحصى ولا تعدُّ لهجت بذكره. رأيتُ دموع الفرح في مُقَلِ كثيرين أخبروني كيف مدَّ لهم يد العون، رافع عنهم بالمجّان في قاعات محاكمة مظلمة وباردة لا يعرفون فيها أحداً. حدّثني آخرون كيف انتشلهم من تجمّعات عمل قاسية، تشبه “قيتوهات” مخيفة. كانوا رجالاً ونساءً معدمين في الأصل وقعوا في قبضة وحوش آدميّة لا تعرفُ الرحمة، أمسوا بفضله أحراراً بعد أن كانوا عبيداً، مسلمين ومسيحيّين، سيخاً وهُندوساً، لم يسألهم عن روبيّاتهم، ولا إن كانوا يئمّون مساجدَ أو كنائس أو حسينيّات، بل تفطّن لكونهم علقُوا في تجمّعات عمل بائسة، زخرت بها أقاليم البلد شمالها وجنوبها شرقها وغربها.

 أمّا أنا فقد نبشتُ عن كلّ شيء يخصّه. سألتُ إن كان من عشيرتي وعلى ديانتي رغم أنّ اسمه وشى ببداهة سؤالي وحمقه. سألتُ إن كان متزوّجاً ولديه أبناء، فقد أُوحيَ إليَّ أن أتسرّب إليه من منفذ امرأة عزيزة عليه أُمّاً، زوجةً، بنتاً، أختاً. لا يهمُّ، فالنساء كنّ ولا يزلن مفاتيح قلوب الرجال وعَزمهم.

 وشوشتُ لنفسي:

–         إن وصلتُ لإحداهنّ فقد أتمكّن من الظفر به! كيف لا وأنا التي دخلت خدور نصف نساء موريدكي وانبرت عوراتهنّ مكشوفة أمام عينيَّ؟!

كلّ ما توصّلتُ إليه أنّه محامٍ مسلمٌ في الخمسين من عمره.

وكان رجلاً مجلّلاً بالغموض والسحر! والمهمّ أنّه كان بلا منافذ! 

 سكن أحمد حسن ريزوي وجداني منذ تلك اللحظة. سأسمّيه اختصاراً السيّد ريزوي، لأنّ اسمه الثلاثيّ يثير فيّ رهبة وتوجّساً لا أعرفُ مأتاهما بالضّبط. أُدعى شاهسة أحمد خانم. أنا مسلمة من أصول سنيّة في بلد غنيّ مترامي الأطراف كباكستان. لكن مهلاً، فليس كلّ سكّانه أغنياء طبعاً. أمثالي ممّن لم ينالوا من ثرائه نصيباً، امتلكوا أسماءً طويلة ورنّانة، أٌلحقت بألقاب تشي بوجاهة وعراقة واهتيْنِ. لكنّ اسم أحمد حسن ريزوي كان مميّزاً، مهيباً ذا رنّةٍ لا تخطئها الأذن، خصوصاً بعد أن اقترن بصورته التي رأيتها أخيراً تتصدّر صحيفة “التايمز” عندما توقّفتُ عرضاً لابتياع قنّينة ماء معدنيٍّ من كشكٍ على جادّة “ناراوال موريدكي”، وقرأت اسمه المكتوب بالبنط العريض أعلى الصورة.

خُيّل إليّ يومذاك أنّني اكتشفت سرّاً من الأسرار الإلهيّة!

توقّفت طويلاً، أتفرّس ملامحه مثل من يقف أوّل مرّة أمام تمثال البطل أرطغرل، لكنّه كان أجمل وأعظم في عنينيَّ خلال تلك اللحظات. كان رجلاً صارماً ممسوحَ الابتسامة، بشاربين ضخمين عريضيْن وحاجبين كثّين معقودَيْن. بدا يحمل فوق كاهليُه هموم العالم بأسره، فقد حفر الحزن تعاريجه بوضوح فوق وجهه الأسمر، وطمست الهموم فوانيس عينيه. كان متوسّط القامة رغم أنّ صورته العملاقة وشَت بطولٍ فارعٍ، له جسد متماسك متناسق، وكان يلبس طقماً أبيض عاديّاً مثل عامّة الرجال في باكستان “السلوار والكميز” كما ننطقها بالأرديّة هنا في «مُوردَكِي».

للرجل مصائب في ثقل الجبال ولا ريب، فهل أزيده حملاً فوق أحماله؟ وهل سيتسّع صدره لمصيبة امرأة معدمة ومنسيّة مثلي؟ لا ريب في أنّه مشغولٌ على مدار السنة، لا يظهر للعلن إلاّ نادراً، وإن ظهر فهو يتوسّط تجمّعاً يضجّ بالبشر، خطيباً محرّضاً، أو يقود مظاهرة حاشدةً، فكيف لي الظفر به وانتزاعه من بين آلاف الخلق؟

شاءت الصّدف أن ألتقي أحد الأجوار الذي يعمل في هيئة حقوقيّة في العاصمة كنتُ قد استشرته في القضيّة التي سخّرت نفسي لأجلها. أخبرني بأنّ الرجل سيترأسُ تجمّعاً مناهضاً للسخرة وعمالة الأطفال القصّر، باعتباره عضواً في جمعيّتها العالميّة ورئيساً لفرعها في العاصمة إسلام أباد. صفق قلبي فرحاً، رحتُ أتنطّطُ جذلة مثل رضيع قرود أمام دهشة محدّثي. لم أتركه إلاّ بعد أن استجوبته بإصرار محقّق وانتزعت منه ما أمكنني انتزاعه من معلومات. زوّدني بتفاصيل هامّة عن زمان المسيرة ومكانها والمشاركين فيها. هرعتُ إلى البيت وبدأت أتجهّز للموعد منذ تلك اللّحظة. كنتُ ألفّ وأدور حول نفسي مردّدة كالمخبولة:

–         ربّما انتبه إليَّ الرجل أخيراً!

كنتُ قد اقتطعتُ صورته من الجريدة التي ابتعتها للغرض ذلك اليوم. رحتُ أبسطها عشرات المرّات في خلواتي لأمعن النّظر في وجهه. بدأت خيالاتي تتقافزُ هنا وهناك في الأمكنة التي يمكن أن تطأها ساقيْ بطلي الموعود. فتحتُ الدُّولاب، رحتُ أقلّبُ فيه عن طقم مثير أرتديه كما لو أنّني مراهقة تذهب لموعدها الغراميّ الأوّل بتلك اللّهفة والرجفة اللتين ترسخان في الذاكرة لسنين طويلة إثر ذلك. مكثتُ طويلاً أمام المرآة أتعقّب آثار الجمال في وجهي الذي أهملته، وأعيد نثر الضوء على مكامن الحلاوة في جسدٍ أنهكته الهموم، وطمس معالمه السواد الذي يلازمني أينما ذهبتُ. كنتُ مثل أرضاً جدباء، اهتزّت وربت تحت قطرات المطر المنهمر، أردّد كلمات الحبّ ذاتها التي أسرّت بها الحسناء “شفاء” لبطلها “تقيّ” في فيلم “تمام البدر”. وكنتُ على وشك الرّقص، لولا أنّني تذكّرتُ أنّني تقريباً في حالة عزاءٍ.

 سرعان ما عاد إليَّ رشدي عندما ناداني “الشّادُورْ” المخيف من مكانه معلّقاً في المشذب:

–         أنا هنا!

 وسمعتُ قهقهة رقيعة وصوت يخاطبني من ذات المكان:

–         هههه إنّه لن يتمكّن من رؤية وجهكِ حتّي!

عندئذ فهمتُ أنّه سقط منّي أوّل الأسلحة التي تحتكمُ عليها امرأة مثلي. الوجه والجسم، كانا متوفّريْن ومتوفزَّيْن عندي، لكنّني كنتُ مضطرّة لطمسهما بمجرّد أن أخطو خارج البيت وأمشي في الشارع. ورغماً عن ذلك قرّرتُ أن آخذ زينتي كما ينبغي لامرأة في الأربعينات، ناضجة الجسم والرّوح، لعلمي أنّ الجمال والفتنة ينبجسان من الأعماق مهما طُمرا، ورجل مثله لن يبطئ في تلقّف تلك الإشارات. نتفتُ شعر جسدي بأكمله، واخترت زوج كيلوت وحمّالة صدر من تلك التي أعددتها لجهاز عرس طال انتظاره ولم استعملها قطُّ، وجّربتُ بروفة مكياج لوجهي بما في ذلك العينين والشفتيْن، واخترت تسريحة شابّة وفاتنة لشعري كما لو أنّي سأطلقه للريح متحّرراً من غلالته السوداء.

 رحتُ أتخيّل مشاهد عن اللّقاء، لا تحصلُ سوى في أفلام “بوليود” التي أشاهدها خلسة في البيت وبعيداً عن أنظار والدي وإخوتي الذكور الذين كثيراً ما اتهموها بتلويث عقلي، فتأخّر زواجي لفرط ما رفضت رجالاً تقدّموا لخطبتي لكنّهم رجعوا خائبين لأنّهم لم يمتلكوا وسامة “فيفيك موشران” و”راهول روي” و”شانكي باندي”.

 كانت سيناريوهات غريبة برعمت في خيال امرأة ملتاعة مثلي بدأت تؤمن بالأعمال الخارقة والمعجزات. تخيّلتُ أنّ إحدى المشاركات في المسيرة ألمّت بها آلام المخاض. صاح النّاس يبحثون عن دايةٍ بين الحشود. رأيتُني أتقدّمُ بين سيقان كأنّها الأمواج المتلاطمة، أدفع الهامات من حولي، وأعتذر للمتأذّين من خَبْطِ يديّ وساقيّ صارخةً: قابلة! قابلة! افسحوا الطريق من فضلكم! فيتنحّون من أمامي وعلى وجوههم أمارات الدهشة والتوقير. حين أصل إلى قلب الرحى، أجد المرأة المشرفة على الوضع تصرخُ وتمزّقُ شعرها وقد اشتدّت عليها آلام الطلق المُرّة.

 أباشرها أمام العيون الجاحظة والأنفاس المحبوسة حتّى أقتلع الوليد من رحمها، أحمله بين يديّ، فيرافقني الجَمعُ بالتصفيق والهتاف حتّى أضعه بين يَدَي السيّد ريزوي قبل أن تتلقفّه الأيادي ليحطّ فوق صدر أمّه بسلامٍ. يمدُّ لي يده فأصافحه على استحياء، ومن ثمّة يضع راحته على خدّي ليبارك ما قمتُ به. ترعى جسدي حرارة مفاجئة، وينفر شعري كالشوك، ويتفصّد جسمي عرقاً بارداً. يسألني عن حاجتي لقاءَ ما فلعته. تختفي نباهتي وحصافتي فجأة. أبحث عن لساني فلا أجده، وأبدأ في التأتأة مثل صبيّة غرّة تعوزها الخبرة في مثل تلك المواقف. لكنّه ينقذ الموقف، ويتصرّف كبطل حقيقيّ، فقد اخترته بطلي منذ البداية…من رواية سجاد المسيح

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :