فنون المتسولين تحير عقول الباحثين

فنون المتسولين تحير عقول الباحثين

صافيناز محجوب

حاجة لله الله يستر بيتك ) ( عطيني حاجة الله يرحم والديك ) عندما تسمع هذه العبارة فلا بد أنك سترسم صورة كئيبة لمتسول رث الثياب كريه الرائحة مغبر الشعر حافي القدمين , أما إذا كان الصوت أنثويا فترى إحدى السيدات تضم طفلا رضيعا تمطرك بوابل من عبارات الاستعطاف .

في طريق ذهابي إلى العمل كنت أرى امرأة عجوزا أمام باب المصرف وأحيانا في الطرقات ومن عباراتها المبهمة عرفت أنها تعاني من مشاكل في النطق إلا أني رأيتها في أحد الأيام تتحدث مع زميلة لها في خدمة التسول وكانت تتحدث بشكل سليم فعرفت أنها حيلة لاستعطاف الناس ودفعهم للشفة عليها . كالعادة في بداية الشهر أذهب لاستلام مرتبي وعند نزولي من السيارة أمام المصرف وجدت على الدرجات الأربع لمدخل المصرف أربعة أرجل بشرية ممددة أمام الباب , اقتربت وإذا بي أرى امرأتين إحداهما ترتدي ( الزى الليبي – الجرد ) والأخرى كما يبدو من ملامحها أنها من إحدى الدول العربية وتبارت الاثنتان في عبارات الاستعطاف الأولى تقول ( ربي يفرج عليك ) والثانية (يا بوي يوسع عليك عندي عيال يتامه) خرجت من المصرف فكانت المرأتان في حالة من السكون والصمت كما يبدو أنهما قد تعبتا.

كنت أجلس إلى مكتبي أراجع بعض الأوراق عندما دخل المكتب شاب في ربيع العمر أنيق الثياب مهذب قال لي ( يا أستاذة أريد دينارين حتى أستطيع العودة إلي منزلي في إحدى الشعبيات ) ومع الإتقان الشديد لتمثيله ذلك الدور ولكوني قد اقتنعت فعلا أنه في مأزق أخذ الدينارين وانصرف وأنا أتأسف لحاله قائلة في نفسي ( مسكين ما عنداش حق رجوعه لأهله ) المهم أني بعد أيام دخلت محل السوبر ماركت فإذا بي أفاجأ بنفس الشاب يطلب دينارين من صاحب المحل نظرت إليه ولكنه كما يبدو لم يعرفني ولكن رأسي في تلك اللحظة كانت أشبه ببركان يوشك على الانفجار. في زيارتي لإحدى الدول العربية كانت العادة السيئة التي علقت بي أني كلما رأيت أحد المشردين أو المتسولين أتوجس فيه الخداع لذلك أظل أتفحصه بعينيْ مخبر سري فمن السهل أن تخدع الآخرين بمظهرك البائس أو أن تخفي ذراعك تحت الثياب أو أن أربط قدمي أو أن أثبت عيني فتظن أني عمياء إلى آخر تلك الحركات الخادعة والتي تستعمل في أفلام السينما . امتهن الكثير التسول حتى بات مهنة دائمة, والكثير من الباحثين ظلوا يدرسون الطرق الخادعة لهؤلاء المتسولين والتي حيرتهم إلى درجة لم يعرفوا المتسول الحقيقي من المتظاهر بمظهر المتسول , في حادثة وقعت منذ أكثر من 3 سنوات على إثر وفاة إحدى المتسولات عثر على دفتر لحسابها المصرفي وإذ بالشرطة تعلم أن لديها مبلغا كبيرا جدا لدرجة أن هذا المبلغ يكفيها لمدة عشر سنوات أو أكثر ويغنيها عن التسول وصدق من قال ( ابن آدم لا يملأ عينه إلا التراب ) العديد من الناس وجد أن مد اليد والتسول مهنة سهلة جدا ومربحة في نفس الوقت كما أنها طريق سهل للغنى. حاولت مد جسور الأمان مع إحدى المتسولات حيث أخبرتني بأنها خلال أسبوع تحصل على ما يقارب من 150-200 دينار أما في المناسبات والاحتفالات الدينية فالمبلغ يزيد عن ذلك ولا أخفي عليكم هناك حب فضول لخوض تجربة التسول ولكن أنا على يقين من أن أمري سينكشف .

في صدفة أخرى اكتشفت إحدى المتسولات تعلم طفلة صغيرة بعض عبارات الاستجداء ولكن القضية الخطيرة جدا تكمن في التعاون المشترك بين المتسولين من الليبيين والمتسولين القادمين من الخارج إن أول عهدنا بالتسول كان بسبب حضور هذه الفئة من الخارج ومع تطور الزمن أصبحنا نرى تعاونا مشتركا بين المتسولين الوطنيين والموفدين . إنه لمن المؤسف حقا أن نجد عجوزا ليبية بزيها الدرناوي الأصيل يصل بها الوضع المعيشي المتردي إلى الجلوس أمام أبواب المصارف وفي الطرقات رغم أنه من المعروف عن الليبيين أنه يعتبر التسول ومد اليد للغير إهانة له حتى أنه يفضل الموت على أن يطلب الإحسان من الغير ومهما وصلت درجة الفقر بهم فهم يفضلون الموت جوعا بدلا من التسول .

أما الأمر الآخر والذي يجعلني أغضب إلى حد الجنون أن أرى إحدى المتسولات تحاول تقليد اللهجة الليبية بصورة مزرية للغاية أو تتنكر في اللباس الدرناوي ( الجرد ) وقد علمت من إحدى المتسولات وهي طفلة صغيرة طرقت باب المنزل في أحد الأيام أخبرتني أنها جاءت مع معظم أفراد عائلتها الكبيرة وهم يأتون كل سنة في الإجازة الصيفية من دولة عربية ويمتهنون التسول طيلة فترة الصيف ثم يعودون إلى بلادهم . إلا أن الأمر بات يتطور شيئا فشيئا إلى تشكيلات تمتهن مهنة الشحاذة عند أحد المطبات على الطريق السريع توقفت سيارة تاكسي بها عدد من النساء المخمرات فتوجهت لهن المرأة الواقفة على ذلك المطب وركبت معهن تلك المرأة وكأنهن موظفات في نهاية دوام حكومي .

ما يحزنني حقا هو استخدام الأطفال كوسيلة استعطاف فتقف المرأة محتضنة طفلا في الأغلب رضيع وسط الجو البارد وأحيانا تحت المطر . مع أن هناك جهودا كبيرة للقضاء على هذه الظاهرة إلا أن هؤلاء المتسولين اعتادوا العودة من جديد حتى أصبحوا يكونون تشكيلا عصابيا للتسول وينقسمون إلى مجموعات إحداها في مدينة درنة والأخرى تتجه إلى طبرق والأخرى إلى مدينة البيضاء . حتى بات هذا المرض مرض التسول يستفحل في مظهر غير حضاري لا يليق بالمدن الليبية الرائعة التي يتصف مواطنوها بعزة النفس والخصال الكريمة فمتى يا ترى يتم إلغاء مهنة التسول من أمام أبواب المصارف وعلي عتبات الأبواب ؟

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :