قصة “صيّاد الألسنة” 2

قصة “صيّاد الألسنة” 2

  • روعة سنبل

 كنّا ننحدر جميعنا هابطين من قمّة التّلّ الصّغير، أنا وأصدقائي، وآخرون من أهل القرية، و هو لم أدرِ، لمَ اشتعل فيّ يقين، أنّ السلامة هنالك: في الأسفل تكاد قدميْ تتعثّر كلّ حين، لكنّني أتدارك خطواتي؛ كانت الشّاهدات الرّخاميّة البيضاء، تطلّ من بعيد، من خلال الأغصان المتشابكة والشّجيرات الصّغيرة، ملوّحة لي كأكفّ الغرقى؛ يكاد الهواء، الّذي أستنشقه من أنفي، لا يكفيني، لكنّني أحاذر فتح فمي، أصرّ على أسناني بقوّة، أغلق فكّيّ بإحكام.

    لا أكاد أجد الآن في رأسي صورة متكاملة له، لا أدري، ألأنّني لم أره جيّداً وقتها، أم لأنّ ما حصل لاحقاً، احتلّ ذاكرتي، وجمّد الدّم في عروقي؟  ما أتذكّره: كيسٌ قماشيّ كبير بلون التّراب، يتدلّى من كتفه ، تتخبّط  داخله أشياء صغيرة، تصنع هنا وهناك نتوءات فيه، تتغيّر كلّ برهة، مصدِرة ًصوتاً، يشبه صوت صفعات متتالية، كأنّ فيه أسماكاً تنتفض، وتضطرب في نزعها الأخير.

    أثار مرأى الكيس وصوته ذعري وفضولي معاً، بقي ذعري يلازمني كطائر في عنقي، أمّا فضولي فقد تبدّد، حالما انهرتُ أرضاً منهكاً من الرّكض و الخوف، سرعان ما أدركني هو؛ وقف محدّقاً بي بهدوء، لم يكن مظهره مرعباً أو غير مألوف، لكنّ موجة ذعر اجتاحتني بمجرّد اقترابه منّي، حرّضتها صورته الوحشيّة المتوارَثة  المنطبعة في رأسي، رافق نوبة ذعري إقياءٌ عنيف؛ وسط بحيرة قيئي، لمحت  لساني، يسبح كسمكة صغيرة حمراء، انحنى هو، التقط الّلسان الّلزج المنتفض بعنف، قبض عليه بكفّه برشاقة وقوّة، أودعه الكيس، وانصرف، دون أن يلتفت إليّ.

    بعينين مستكينتين وادعتين، وفم منطبق بإحكام، ظللتُ أرضاً، أراقب ضحايا كثيرين آخرين.

    لمحت من بعيد أحد الفتية، وصل حائط المقبرة، ثمّ أدركه آخر، بلغتني أصواتهما، تعلو بالكلمات المحظورة المكتوبة على حائط المقبرة، متبوعة بقهقهاتهما السّاخرة.

    ثار جنونه، وجنون الألسنة داخل كيسه؛ انطلق هابطاً بخطوات واسعة.

    قبل المقبرة بقليل، فقد السّيطرة على كيسه، فانزلق عن كتفه، و تناثرت منه مئات الألسنة الحمراء، زحفت، تلوّت كحيّات تسعى، فانهار أرضاً محاولاً لملمتها بكفّيه الكبيرتين، لكنّها فرّت حافرة بسرعة في التّراب.

    لحظات قليلة، ملأ طعم التّراب فمي، ثمّ أحسست لساني ينبت من جديد، بألم غير محتمل مرافق لانبثاقه.

   استيقظتُ، جلستُ في سريري والعرق يبلّلني تماماً، كان أوّل ما فعلته، أنّني عضضْتُ بأسناني على لساني، لأتأكّد من وجوده، و كأنّ هذا لم يكن كافياً، فوجدتني أتّجه بجنونٍ نحو المرآة، لأفتح فمي و أراه.

    طرقَ ضجيجٌ غير معتاد أذنيّ، فتحتُ باب منزلي، صادفتُ حشداً من أهل القرية، بينهم كثيرون يمدّون ألسنتهم ببلاهة،  يتلمّسونها متدليّة من أفواههم غير مصدّقين.

   شقّتِ الهواء زغرودة، انطلقت من حنجرة جارتنا، الّتي فقدت لسانها منذ أسبوع، تأملتُ بانبهار لسانها، يتراقص رشيقاً في فمها، ثمّ انضمّت إليها عشرات الزّغاريد، زغاريد ألسنة كثيرة فتيّة، أنتشتْ من جديد، وأخرى ملّت اليباس والصّدأ.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :