كتب :: محمود السالمي
لاشك أن ظروف البيئة الاجتماعية المحيطة بشاعر الأغنية الشعبية تؤثر إما سلباً أو إيجابا فى نوعية الأغاني التي ينتجها هذا الشاعر .. فالأغاني الشعبية في الواحة تختلف كلياً عنها في البادية أو في المدينة حيث تتداخل المؤثرات أيما تداخل وتتنوع أيما تنوع .. وقد يعتقد البعض أن الأغاني الشعبية حينما تنتقل من بيئة لأخرى يعتريها تغيير قد يؤثر في جوهرها وروحها ، إلا أننا هنا نؤكد عكس ذلك ، على الأقل فيما يخص الأغنية الشعبية الليبية ، فكثير من الأغاني الشعبية التي تغنى في الجنوب الليبي ومناطق الواحات خاصة الجفرة انتقلت إلى الشمال وتم غناؤها في كبريات المدن وبعضها اكتسب شهرة انتشر لهذا السبب ، كما هو الحال في الأغاني التي أداها الفنان الراحل ( علي الشّعالية ) أو المرحوم ( محمد صدقي ) وغيرهم من أعمدة الفن الليبي الأصيل .. وحتى التأثير الذي قد يدخل الأغنية عند الانتقال من بيئة لأخرى لا يظهر واضحاً جلياً إلا في الانتقال من بلد إلى آخر إذ أن التغيير فى الغالب يلامس جوهر الأغنية ومضمونها وكلماتها ، كما هو الحال في الأغاني الشعبية التي تغنى في واحات الجنوب الليبي وانتقلت إلى واحات الجنوب التونسي ، ولعلنا سنفرد مساحة نتناول فيها هذا الموضوع . وعودة لموضوع تأثير البيئة في الأغنية نقول إن شعراء الأغنية درجوا على تحميل الرياح سلامهم لمن يحبون وهذه عادة الشعراء قديما وحديثاً إذ يقول شاعر العربية محدثاً ريح الصبا : ألا يا صبا نجدٍ إذا هجت من نجدٍ لقد زادني مسراك وجداً على وجدٍ وحينما نطالع الأغنية الشعبية نجد أن فيها بلا شك معانٍ كهذه المعاني ، لاحظ الأغنية التي يقول مطلعها : قله يا تيار بلغ سلامي لبو غثيث غمار فالشاعر هنا يخاطب تيار الرياح ، طالباً منه أن يبلغ سلامه للحبيبة التى وصفها بقوله ( بو غثيث غمار ) والغثيث هنا هو الظفيرة أو ما نعرفه نحن باسم ( السالف ) وقد أضاف الشاعر كلمة ( غمار ) التي تفيد الكثرة والغزارة فالصفة التي اشتهرت بها محبوبته هي طول وكثافة وسواد شعرها .. والشاعر في هذه الأغنية لايحْمل الرياح فقط سلامه للحبيبة فقط ، وإنما يحمله للنسيم وللسحاب بل حتى للطير ، إذ يقول في نفس الأغنية : ياطير يامصدوم بلغ سلامي للابسة المنضوم اللي وشمته قضوم طول الشعر قامة وسبع أشبار فالشاعر هنا يطلب من الطائر الذي يحلق في سماء الواحة ويطالع كل شيء تحته ، أن يبلغ سلامه وأشواقه إلى من يحب ، ويعطيه صفة الفتاة التي يهواها فهي ( لابسه المنضوم ).. إذ أن فتيات الواحة حينما يبلغن الحلم يحرص أهلهن على شراء نوع من العقود المعروفة والمصنوعة محلياً من الذهب والأحجار الكريمة حمراء اللون ذات بريق لا يخبو وهى شيء لازم لكل فتاة في الواحة , بل إن هذه ( العقود ) كانت تشرط في عقود الزواج على الزوج وهم يعتبرونها من المستلزمات الضرورية لإتمام الفرح أو الزواج . وفي الأغنية يضيف الشاعر صفة أخرى للمحبوب وهي ( الوشم ) حين يقول في الوصف ( اللي وشمته قضوم ) .. والوشم لم يعرف في الواحات إلا لدى بعض العائلات التي كانت تَسِمُ به أبناءها أو تستشفي به أو تحمي به الأبناء من العين بالإضافة إلى وظائفه الجمالية بالنسبة للفتيات ، وكلمة ( قضوم ) الواردة في الأغنية تشير إلى اللون الأخضر النيلي الذي هو لون الوشم ، ثم يلجأ الشاعر إلى المبالغة حينما يعود لوصف شعر المحبوبة حين يقول ( طول الشعر قامة وسبع أشبار ) أي أن طول شعر المحبوبة قامة وسبع أشبار ، وهو طول لا نكاد نراه إلا في الخيال الذي ألهم هذا الشاعر هذه ألا غنية .. ثم : قله وجيب خبر بلغ سلامي لخزرة الجاسر ما طقت لين نصبر بالله خبر كيف صار وصار يشير شاعر الأغنية على تيار النسيم الذي يحمله سلامه إلى المحبوب بأن يأتيه بخبر من عنده وأن يبلغ التحايا والسلام إلى ( خزرة الجاسر ) ويعني هذا التعبير عيون الصقر التي يرى فيها التعيبر الشعبي لونا من الجمال غير المعهود ، والرقة التي لانظير لها ،( ما طقت لين نصبر ) فالشاعر لم يعد يطيق صبرا على غياب الحبيب ( بالله خبر كيف صار وصار ) إذ يناشد الشاعر الطائر حين وصوله أن يخبر الحبيب بالتفصيل عن حالته وما يلقاه من العشق والصبابة والهوى ، ثم يقول : قله وجيب نباك بلغ سلامي لخلتي نرجاك قله وجيب دواك قوله مريض وايسوا الزيار يشترط شاعر الأغنية على الطائر الذي أرسله للمحبوب أن يحمل إليه وصفاً لحالة الهيام التي يعيشها ، وأن يأتي بخبر منه يشفى الغليل ، إذ أنه سيبقى منتظراً إياه لحين العودة ، ففي عودته ما يشبه الدواء للقلب … وانظر معي لقوله ( بلغ سلامي لخلتي نرجاك ) فكلمة ( خلتي ) تعني الخلّة أو الخليلة التي تعني الصديقة أو الحبيبة وهي كلمة عربية فصيحة لاريب .. ثم يضيف ( قوله مريض وايّسوا الزيار ) أي أخبره أنه مريض حتى أن الذين زاروه قد يئسوا منه ومن شفائه من داء ألمّ به . ألا ترى معي عزيزى تأثير البيئة في أغانينا الشعبية . بقراءة متأنية لأبيات هذه ألا غنية ستلاحظ ذلك ولعل هذا ما يزيد أغانينا الشعبية روعة وجمالا .