كتابة: ندى القطعاني

كتابة: ندى القطعاني

ندى القطعاني

 إيش؟” وعلاقتها بما يسمى بالـ“Intralingual Translation”

يستخدم سكان شرق البلاد مصطلح “إيش” بكثرة، وذلك عند استفسارهم عن أمرٍ ما أو إجابتهم لنداء معين، ونجد أنه أيضًا يُستخدَم في بعض البلدان العربية لتأدية نفس الوظيفة. وبحسب معجم الوسيط، فإنَّ “إيش” هو حرفٌ أو أداة منحوتة من جملة “أي شيء”، أي بمعنى: أي شيء تريد؟ أو أي شيء تعني؟ محليًّا، انتشر في الآونة الأخيرة استخدام هذا الحرف بكثرة، وهذا لا يرجع إلى اكتشافهم له حديثًا، إنّما اقتداءً بإحدى شخصيّات سلسلة “شط الحرية”، وهو مسلسل ليبي عُرِض على ثلاثة مواسمَ رمضانيّة. وباعتبار أنّني شخصٌ محور اهتمامه اللغات، الكلمات، والمعاني، فلم تقتصر مشاهدتي له على الاستمتاع والضحك على النكات والمواقف فقط، بل كنتُ أصغي مركّزةً على كل لفظ، وكل سياق مُستخدَم، بغية الإحاطة باللهجة البدويّة المستخدمة. وهنا، بدأ اهتمامي بشخصيّتَيْ “أبو رقبة” و”الفقي زيدان”؛ كان لهاتين الشخصيّتين دورٌ محوريٌّ في المسلسل، إذ إنَّ “أبو رقبة” شيخُ النجع وكبيره، والحكيم الذي يُلتجأ إليه في حال حدث أي مكروه في البلدة، ويُعَد “الفقي زيدان” بدوره مستشاره الأول، نظرًا إلى رجاحة الآراء التي يُبديها، واستنادًا إلى خلفيّةٍ دينية وقاعدة معلوماتيّة لا بأس بها خوّلت له أن يكون فقيهًا للقرية. بالنسبة إلي، فإنّهما جسّدا ظاهرةً لغويّة وحقّقا ما يُسمَّى في عالم الترجمة “Intralingual Translation” (أي الترجمة في ذات السياق)، وهذا ما قد يستغربه عامة الناس؛ إذ إن مفهوم الترجمة عند الغالبية العظمى يكون بين لغتين، والحقيقة هي أن للترجمة عدّة أنواع، فقد قسّمها اللغوي والناقد الأدبي الروسي “رومان ياكبسون” إلى ثلاثة أنواعٍ رئيسية: أولًا، الترجمة المتعارف عليها، وهي التي تكون ترجمةً بين لغتين مختلفتين، إذ أطلق عليها ياكوبسن “Interlingual Translation”. أما الثاني، فهو الترجمة بين نظامين مختلفين للإشارة “Intersemiotic Translation”. رجوعًا إلى النوع الثالث، وهو -كما أسلفتُ- ترجمة في ذات اللغة، إذ رأى “ياكبسون” أنها بمثابة تفسير؛ فهي استخدام مرادفات في نفس اللغة بغية إيصال الرسالة التي يتضمّنها النص الأصلي، وهذا بالضبط ما قام به “الفقي زيدان”؛ إذ كان عادةً ما يستخدم لغةً فصحى ومصطلحاتٍ معقدة، ما يصعّب على أهل النجع البسطاء فهمه، وهنا يأتي دور “أبو رقبة”، الذي يستخدم أداة الاستفسار عن المعنى “إيش” مستحثًّا الفقي زيدان أن يفسّر ما قاله بلغةٍ يفقهها أهل المكان بمن فيهم هو. فمثلًا، في أولى حلقات الجزء الثالث، يقول الفقي في رثاءٍ للحال الذي وصل إليه شباب النجع: “يبدو أن الهموم لا تستثني أحدًا”، فيسأله أبو رقبة مستفسرًا: “إيش؟” -وهنا بيت القصيد-، فيستخدم الفقي مثلًا عاميًّا مكافئًا للمعنى ويقول: “اللي ما يبكي خانقته العبرة”. أيضًا، في إحدى حلقات الجزء الثاني عندما كان متحلّقًا برجال النجع وقال: – “حيثما حرية، فثمة وطن” – “إيش؟” – “ما تمشي الرجل إلا وين يستحب الخاطر” ولا يقتصر الأمر فقط على التفسير بالأمثلة الشعبيّة، إذ استُخدمَت مرادفاتٍ بسيطة لمجرد إيصال المعنى وتفسير القول الأصلي؛ فمثلًا، يقول الفقي مستفسرًا عمّا يشغل بال صاحبه الشيخ أبو رقبة: “وما الذي يشغل بالك؟”، وكعادته الشيخ يسأل: “إيش؟”، فيبسّط الفقي مضمون سؤاله مختارًا مرادفاتٍ متداولة ويجيب: “أنت إيش في عقلك؟”… أيضًا: – “لعل حالته في الصباح تستقر” – “إيش؟” – “بالك بكرة يصبّح متهاون” وهلم جرًّا من الأمثلة الممتعة التي جددتْ معرفتنا بكثيرٍ من المعاني في الأمثلة الشعبية واللهجة العامية البدوية على حدٍّ سواء.

حقيقةً، لا أعلم إذا ما كان صنّاع العمل -وعلى رأسهم الكاتب والمخرج “أ. فتحي القابسي”- على درايةٍ بالأمر أم أنه محض صدفة، ولكنه في جميع الأحوال طرحٌ ذكيٌّ وبرهانٌ على أن العلوم كافة -وعلوم الترجمة على وجه التحديد- شيء أساسي في الحياة؛ فهي ليست مجرد نظرياتٍ وكتبٍ تُدرَّس في الجامعات بلا هدف أو فائدة، بل هي صلب حياة الإنسان، وتعاملاته اليومية، وعلاقته باللغة والوسائل المختلفة التي يستخدمها في إيصال المعنى. ليس شط الحرية وحده الذي لوحظ فيه استخدامٌ لنوعٍ معين من الترجمة، فإذا أمعن كلٌّ فيما يشاهد أو يسمع -حتى من الشارع-، سيجد ظاهرةً منفردة تستحق التفكر والدراسة، وأن كل ما كُتِب من نظريات ما هو إلا دراسة تفصيلية لهذه الظواهر الحياتية، لا أكثر ولا أقل.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :