بقلم :: سالم الهمالي
فيه شيء من الفخامة، فالاضافة الى مسند الرأس والذراعين يحرص الحلاّقين على خاصية اخرى، يعتبرونها أساسية لخدمة كل من اعتلاه، تتمثل في الارتفاع والانخفاض حسب الطلب، والاكثر حرصا منهم يصرون على ان يكون آليا، ليحافظوا بذلك على الجهد العضلي الذي تستلزمه ضغوطات القدم على محراك الكرسي.
تعلقي بكرسي الحلّاق قصة طويلة، جذورها قديمة جدا، بدأت في سنوات الطفولة، فيوم الذهاب الى الحلّاق هو عيد، فيه زيارة للمدينة، واكل سندويش في مقهى الحاج عبدالقادر الأطرش مع مشروب الببسي، الميراندا، او السينالكو، والحدث الابرز الجلوس على ذلك الكرسي الفخم، بلونه الأحمر الزاهي، امام المرآة الكبيرة وسي المهدي يقص الشعر، ويطقطق به بين الفينة والاخرى في الهواء في حركات اهتزازية متتابعة عند حديثه مع احد الزبائن تك تك تك .. تك تك تك. كل شيء في دكان الحلّاق أثارني، الزبائن باشكالهم وأنواع شعرهم المتعددة، وأذواقهم المختلفة في قصَات الشعر، من الكابيله الى الصفر وما بينهما، اما مشكلتي آنذاك فكانت قصر قامتي، بما استلزم وضع قطعة خشبية على ذراع الكرسي تُمكن الحلّاق من الوصول الى شعر راسي.
كرهت تلك اللوحة، اذ بها شعرت اني لازلت صغير، وأقل من أخي الذي يكبرني ولا يحتاج الى تلك اللوحة البغيضة. كل زيارة كنت انتظر تلك اللحظة التي يجلسني فيها الحلّاق على كرسيه بدون لوحه، لأستعيد الثقة بالنفس والشعور انني كبير كأخي. وانا انتظر دوري على الكرسي، احلم كثيرا بكابيله لها شعر طويل في اعلى الرأس وملحوس على الاخر من الأسفل، لكن ذاك الحلم يضيع هباء، عندما يتفق والدي مع سي مهدي على كابيله عادية، لا يوجد فيها اي نوع من انواع الموضات او ” الستايل”. ينتهي الحلّاق من شغله، وينتهي دوري على ذلك الكرسي، الامر الاكيد والثابت مع كل الزبائن. مع الزمن ادركت ان الحلّاق يعرف الجميع تقريبا، فكلهم ياتون اليه لقص شعرهم، والبعض تشذيب اللحية والشنب او ملط شعر الوَجْه ونتف الشعر الناشز للحواجب او الأنف والأذنين. حاولت كثيرا ان ادقق عليه وهو يمسك السلك بكلتها يديه ويحركه بطريقة سحرية بين اربع زَوَايَا، يديه واسنانه وتلك الشعرة، التي يلتف حولها السلك وينتفها من جذورها، حين تقع مخنوقه بين الأسلاك التي يحركها ببراعة فائقة.
شيئا فشئيا كبرت، وصرت اكثر ملاحظة لما يجري في دكان الحلّاق، في احد الايام تمنيت ان اسأله: هل يدفع الأصلع نفس الثمن، عندما رأيت زبون يمكن ان تحصي عدد الشعيرات في رأسه، لكن بالطبع لم افعل، ولا يمكن ان أجرؤا على ذلك. في كل مرة، ما ان يدخل الزبون حتى يبادرة الحلّاق بالتحية والسؤال عنه وأسرته وعمله، واشياء اخرى حتى ظننت انه صديقا شخصيا لهم جميعا. يتحدث مع هذا في الزراعة وموعد حصاد القمح، والاخر عن الامتحانات وعلاوات المدرسين المتأخرة، وذاك عن موعد عرس فّلان وفاتحة عيت علّان. ما ان يدخل زبون آخر حتى يبادره بالتحية ويدخل معه في حديث جديد، من خط بارليف الى ” هوشي منه” وقنابل النابالم في فيتنام.
في خريف سنة ١٩٧٣ استوقفني الاستاذ محمد دخل الله، استاذنا في الصف السادس الابتدائي، فلسطيني خريج الجامعات المصرية و احد نازحي النكبة، طلب مني المشاركة في تمثيل مسرحيّة كتبها، ويود عرضها على مسرح المدرسة، وافقت قبل ان اعرف عنها اي شيء، فالنشاط المدرسي كان فرصة لتفريغ الشحنة الزائدة، والهروب من خدمة المزرعة مع الأهل. تلك السنة كانت حافلة بالاحداث، ففي ليبيا كان خطاب ازوارة ونقاطه الخمس حدث مفصلي في تاريخ البلاد، والحرب العربية الاسرائيلة ( حرب العبور/ رمضان) كانت الابرز عربيا، حين عبر الجيش المصري قناة السويس وما تبع ذلك من تطورات، بلغت ذروتها بثغرة الدفرسوار التي حاصرت الجيش المصري، وغيرت مسار الحرب. مسرحية ” الحلّاق” لم ترى النور، لكنها لازالت تعرض أحداثها كل يوم في مخيلتي، فبالإضافة الى تطابقها مع ما احمله حينها من رؤية للحلاقين، اضافت بعدا آخر بما كتبه مؤلفها، متنبئا بما سيحصل في ليبيا بناءً على ما يراه، وصوره في حوار مسرحي شائق بين الحلّاق والزبون يتناقشون فيما يجري وسيجري في ليبيا بعد خطاب ازوارة.