- إدريس عبدالسلام
منذ لحظة التغيير الحاسمة في عام 2011، دخلت ليبيا في دوامة أزمات متشابكة. أربعة عشر عامًا من الفوضى والانقسامات كشفت هشاشة البنية الداخلية، وأبرزت التحديات العميقة التي أعاقت بناء مشروع وطني جامع.
لم تتبلور خلالها دولة مستقرة، ولم تُبنَ مؤسسات حقيقية. بل ظلت الأزمة تراوح مكانها، وتتعقد أكثر فأكثر، حتى تجاوزت بعدها السياسي لتشمل الجوانب الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ما يجعل الحل مهمة تتطلب مقاربة شاملة وجريئة.
نسيج اجتماعي هش وانكشاف مبكر
أول اختبار للمجتمع الليبي بعد سقوط النظام السابق أظهر هشاشة النسيج الاجتماعي، مع تصاعد موجات العنف والتهجير، وغلبة منطق الانتقام على قيم التسامح والانتماء.
السياسة اختلطت بالعلاقات الاجتماعية، والانقسامات القبلية والمناطقية تسللت حتى إلى النخب، التي فشل كثير منها في أداء دورها التوعوي الجامع، واصطفت خلف توجهات ضيقة زادت من عمق الأزمة.
ثقافة المنصب واختلال الوعي الجمعي
أصبحت السلطة في ليبيا غاية في حد ذاتها، لا وسيلة لخدمة المصلحة العامة. الكرسي صار رمزًا للنفوذ والثراء، لا أداة للإصلاح.
هذا الميل يعكس خللًا في الوعي الجمعي، حيث غاب التقدير للوظائف البسيطة والنزيهة، وحلّ مكانه السعي وراء الامتيازات.
تحوّلت الإدارة إلى شعبية والسلطة إلى ثورية، حتى بات الطالب يشارك عميد الجامعة في القرارات الإدارية والمالية، بل يضغط عليه أحيانًا، فانكسر حاجز الاحترام والتقدير الذي يُفترض أن يحكم العلاقة داخل المؤسسات. وهكذا ضُربت الإدارة في مقتل، وفُقدت هيبتها، ما عمّق الفوضى ورسّخ الفشل المؤسسي.
الولاءات الضيقة.. ألغام في قلب الدولة
التركيبة القبلية والمناطقية، رغم كونها جزءًا من الهوية الليبية، تحولت إلى عائق حقيقي أمام بناء الدولة. غياب المشروع الوطني الجامع فتح المجال أمام الولاءات الضيقة التي غذّت الصراع، وأضعفت أي محاولة لقيام مؤسسات قوية ومحايدة.
انتخابات دون دولة.. استحقاقات معلّقة
منذ 2012، شهدت ليبيا محاولات متكررة لإجراء انتخابات برلمانية ودستورية ومحلية، لكنها لم تُترجم إلى استقرار سياسي فعلي.
الحكومات المتعاقبة عجزت عن فرض القانون أو تقديم خدمات حقيقية، في ظل تفشي الفساد وانتشار السلاح خارج شرعية الدولة. الميليشيات باتت تفرض أمرًا واقعًا، ما يجعل الانتخابات مجرد عملية شكلية لا تؤسس لمرحلة جديدة.
نموذج مُلهم من التضحيات وإنهاء الفوضى
المنطقة الشرقية، كما الجنوبية والوسطى، عاشت فصولًا دامية من الإرهاب والانفلات الأمني، حيث اغتيلت شخصيات أمنية وإعلامية، وانتشرت جماعات متطرفة سعت لتحويل تلك المناطق إلى “إمارات” خارجة عن الدولة.
لكن في خضم الفوضى، تمكنت القيادة العامة للجيش الليبي من استعادة الأمن بعد تضحيات كبيرة، خصوصًا في بنغازي ودرنة وسرت، وهو ما أعاد شعورًا بالأمان، رغم التشويه والضغوط التي رافقت تلك العمليات.
المصالحة الوطنية.. شعار بلا مضمون
رغم كثرة الحديث عن المصالحة الوطنية، لم تُترجم حتى الآن إلى خطوات عملية أو أطر قانونية واضحة.
غياب دستور دائم، وعدالة انتقالية، ومؤسسات مستقلة، جعل المصالحة مجرد شعار إعلامي فارغ، بينما تستمر الخصومات وتُعاد صناعة الأزمات.
اقتصاد مختل.. وطبقة وسطى تتآكل
الأزمة الاقتصادية في ليبيا لا تقل خطورة عن السياسية. الطبقة الوسطى – التي تشكل الضامن الرئيسي للاستقرار – تتلاشى تدريجيًا، فيما تبرز طبقة صغيرة تراكم الثروات عبر الفساد والصفقات المشبوهة.
غياب استراتيجية اقتصادية وطنية، وانتشار الفساد وغسيل الأموال، كلها عوامل تحوّل الاقتصاد إلى قنبلة موقوتة تهدد أي مشروع دولة.
أزمة دولة وهوية ومشروع
الأزمة الليبية ليست مجرد خلاف سياسي، بل أزمة مشروع وهوية، ودولة غائبة لم تكتمل معالمها.
لن تُبنى الدولة بالشعارات أو التسويات الهشة، بل برؤية واقعية، ومصارحة مع الذات، وشجاعة سياسية تقطع الطريق على الجماعات المسلحة وتعيد سيادة القانون، قبل أي حديث عن ديمقراطية حقيقية.
كلمة أخيرة.. بين الحلم والواقع
كتبنا كثيرًا عن ليبيا وشخصنا أزمتها من جوانب متعددة. لكن لا يكفي التنظير والتوصيف.
الواقع يقول: بهذا النوع من العقليات، وهذا النمط من التفكير، وهذه الولاءات الضيقة، من الطبيعي أن تتعثر محاولات بناء الدولة. ومع ذلك، يظل الأمل قائمًا، فالتجارب العالمية أثبتت أن الشعوب قادرة على النهوض مهما كانت التحديات قاسية.
دعوة للتأمل والوعي
علينا أن نعترف: مشكلتنا فينا، والحل يبدأ منا.
لقد نهضت شعوب من ركام الأزمات وكتبت فصولًا جديدة من تاريخها، فلماذا لا يكون لليبيين نصيب من ذلك؟
ما نحتاجه هو الوعي الصادق، والإرادة الجادة، والعمل المشترك. فالوقت لا يزال متاحًا، والحلم ممكن، شرط أن نؤمن بأن بناء ليبيا لا يكون بالأمنيات، بل بالعمل الشاق، والرؤية الواضحة، والإصرار على بداية جديدة.
- إدريس أحميد ..صحفي وباحث في الشأن السياسي المغاربي والدولي *














