ليبيا ….. ميراث التخلف

ليبيا ….. ميراث التخلف

المهدي يوسف كاجيجي

الحاج عبدالسلام بوراوى، كان جاري في حقبة السبعينات بشارع هايتي ، بمدينة طرابلس.عندما نلتقي ، لا كلام بيننا سوى أجترار الماضي ، كيف كنا ؟ وكيف أصبحنا ؟.

وفى آخر لقاء تحدثنا عن أختفاء أسطوانة الغاز وارتفاع اسعارها فى السوق السوداء لأكثر من عشرة أضعاف فعلق قائلا: تصوّر حفيدي لم يصدق اننا منذ اكثر من نصف قرن لم نكن نعرف أسطوانات البوتاجاز، لأن بيوتنا وقتها كانت موصولة بغاز المدينة ، وأن خزانات المياه كانت تتم تعبئتها مساء بفعل قوة ضغط المياه ، دون استخدام المضخات الكهربائية، وأصواتها المزعجة.تراكمات التقدم لقد ادركتنا الشيخوخة، ومن الطبيعي أن نتصيد الأحفاد، ونجترّ لهم حكايات عن زماننا.

نعم نحن ولدنا فى الزمن الفقير، ولكن كانت لنا دولة بفضل حكمة الأباء المؤسسين، دولة قليلة الموارد ، غنية بالحب والترابط بين أهلها. طرابلس العاصمة الجميلة، خليط من تمازج الحضارات التى مرت على ارضها. كل ما حولها يشيخ، وتظل هى دائما عروسا عفيفة ، تزداد مع مرور الزمان وقارا وجمالا. دخلتها لأول مرة منذ اكثر من ستة عقود. كانت آنذاك مدينة عصرية بكل مقاييس تلك الحقبة ، واشتهرت بانها أنظف مدينة فى الشمال الأفريقي بفضل صرامة حرسها البلدي. كنا نتنقل داخلها بشبكة حافلات عامة منظمة نتذكر خطوطها ( السيركولار ) الدائرة على اليمين والدائرة على الشمال، وخطوط سكك حديدية اتذكر أنني ركبت إحد قطاراتها فى رحلة كشفية من محطة شارع النصر. شبكة الطرق البرية التى تربط المملكة تحت المراقبة والصيانة الدائمة ، وشرطة مرور أشد انضباطا وأجمل هنداما. الخطوط الجوية الليبية كانت تنافس الخطوط العالمية فى رحلاتها من وإلى ليبيا انضباطا وتوقيتا وخدمة.دور العرض السينمائى كانت منتشرة تقدم العروض لأحدث الافلام العربية والعالمية، إضافة إلى حفلات عرض خاص بالسيدات. عروض مسرحية لفرق وطنية، وعروض عالمية لفرق موسيقية ذات شهرة عالمية . ولعبت النوادي الرياضية بالرغم من الإمكانيات المتواضعة دورا إيجابيا فى تنمية النشاط الرياضي الذى لم يكن مقتصرا على لعبة كرة القدم وحدها ، بل كانت المنافسة تشتد لعدد من الألعاب الأخرى وخاصة دوري كرة السلة الذى كانت تشارك فيه ، إلى جانب الفرق الوطنية فرق أمريكية من قاعدة الملاحة ، وفريق يمثل الجالية اليهودية الليبية ، مما رفع من مستوى الفرق الوطنية. فى الصيف كنا نقصد مصائف شعبية مجانية ، تتمتع بكافة شروط الصحة والسلامة.اشتهرت طرابلس بمتعة التسوق. كانت متاجرها مليئة بمنتوجات المصانع والعلامات التجارية العالمية ، ومركزا لأعادة التصدير لدول الجوار والبلدان الأفريقية ، إضافة إلى الجاليات الأجنبية المقيمة والعاملة. كانت أسواق الصقر وميتشل كوتس للمواد الغذائية تضاهي وقتها اكبر أسواق السوبر ماركت عالميا ، ومحلات الملابس تعرض آخر تصميمات دور الأزياء العالمية.أين يكمن العيب ؟!هذا شئ يسير من كثير، نواصل اجتراره عن ارث من تراكمات التقدم ، تركه لنا جيل الأباء المؤسسين ، وللأسف ، لم نحافظ عليه، واستبدلناه بأرث من تراكمات التخلف، وهذا ما سنتركه من بعدنا لجيل الأحفاد. أى أرث ملعون هذا ؟ الشعوب من حولنا ، بما فيهم دول الجوار الأفريقي ، التى تم تصنيفها الأكثر فقرا فى العالم ، تواصل تطورها سياسيا واجتماعياً وثقافيا واقتصاديا. بالمقابل ، نحن ، بالرغم من توفر كل الإمكانيات من المواردالطبيعية الهائلة في بلد لا يتعدى تعداده السكانى حيا شعبيا فى واحدة من عواصم دول الجوار، نواصل الانحدار نحو نهاية مأساوية. والسؤال الأن أين يكمن العيب؟ .*

الصورة: القديمة النادرة، مصيف الليدو،وسينما رينا جردينا،ومحطة القطار، طرابلس القرن 20 , من ارشيف السيد ابوالقاسم محمود المنتصر. الملون: طرابلس، منطقة ميزران، القرن 21.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :