نشر في صحيفة المنظار
المعركة
… كانت تلك الليلة ليلة مظلمة مليئة بالمعاناة، ليلة سوداء طال بزوغ فجرها تشبه ليلة سقوط غرناطة، وليلة سقوط بغداد بسبب الخيانة. مرت علينا تلك الليلة، بعد خوض يومين من المعارك الشرسةفقدت فيها الكتيبة (12 جراد اجدابيا) معظم مقاتليها بين قتيل وجريح وأسير.
ليلة سقوط الدوم
.. كان عام 1987م. عاماً سيئاً على ليبيا كلها ، فلم تخلوا مدينة أو قرية من خيم العزاء. وكان يوم الثالث والعشرون من مارس من نفس العام /يوما مختلفاً في حياة الليبيين جميعا.
في ذلك اليوم المشؤم سقطت قاعدة وادي الدوم في يد القوات التشادية ، ومنيت قواتنا المسلحة بخسائر فادحة، وسقطت القاعدة التي كانت رمزا للقوة فأصبحت في تلك الليلة إلى رمزا للهزيمة والانكسار .
وهزم الجيش الليبي الذي كان أصلا مهزوما قبل أن يدخل تلك المعركة. ذلك أن ضمان النصر في تلك الحرب يعتمد بشكل كبير على وجود قيادة حكيمة وسلاح فعال ومعنويات عالية، وهذا وللأسف ماكنا نفتقده في تلك الحرب ،فسلاحنا كان معطوباً ومعنوياتنا كانت أشد عطب وقيادتنا التي تقود تلك الحرب حدث ولا حرج. وبسبب ذلك كله تجرع أبناء قواتنا المسلحة الليبية، مرارة الهزيمة .وتكبدت قواتنا خسائر فادحة في الأرواح والمعدات والمعنويات.
القيادة التاريخية للخيمة
لم تعير القيادة التاريخية للخيمة، في ذلك الوقت أي اهتمام إلى نداء الاستغاثة من قاعدة وادي الدوم ، بل تركت جنودها يهيمون في الصحراء بحثا عن النجاة، ولم تقم بتقديم أي مساعدات كانوا في أمس الحاجة اليها ، فمات الكثير منهم عطشاً رحمهم الله ، و أصبحت جثثهم المتناثرة فوق رمال الصحراء وليمة سائغة تنهشها (للأسف)،الذئاب والكلاب في الليل، وتحوم فوقها الغربان وطيور الجوارح في النهار.
كان يوما دخول القوات التشادية إلى القاعدة وفرض سيطرتها عليها ، يوماً عصيبا جداً لايمكن لمن عاصره أن ينساه، الطقس سئياً جداً، ينتشر فيه الغبار والدخان، ولاتسمع فيه إلا أصوات الانفجارات وطلقات البنادق والرماية في كل إتجاه وترى تصاعد اللهيب في خزانات الوقود ، ودباباتنا وأسلحتنا كانت رابضة في أرجاء القاعدة وفي حالة سكون تام، بعد أن عجزت عن رد هجوم القوات التشادية على القاعدة، ولن تري يومها إلا جثث مئات الجنود الليبيين المتناثرة في كل مكان .والجرحى ينزفون على تلك الرمال الساخنة حتى الموت. وسط خوفنا الشديد من القادم، وذهولنا التام ونحن نرى القوات التشادية تسيطر على القاعدة بعد مقاومة من طرفنا خفيفة جداً لاتذكر.
الوقوع في الأسر
وسط ماكان من حالات الهرج والمرج، ولغة التشاديين التي لانفهمها لانفهمها. زاد وعلا صراخهم وهم يلوحون ببنادقهم في الهواء ، معلنيين أنهم أسروا آمر العمليات العقيد خليفة حفتر، ومعاونيه وكبار الضباط وكانت تلك لحظة تاريخية صعبة أن ينساها من عاضرها وعاشها وشارك فيها .
أمرنا التشاديون بوضع أيدينا فوق رؤوسنا، وكنا نتجرع الذل والمهانة و مرارة الهزيمة والانكسار. خاصة وأن القوات التشادية غنمت وأستولت على اكداس هائلة من التموين والذخيرة والشاحنات والعربات بكافة انواعها .ومع كل ذلك فقد كانت فرحة القاىد التشادي حسن الجاموس كبيرة عندما علم ان من بين الأسرى العقيد خليفة حفتر .
ذلك اليوم تم أخراجنا نحن الأسرى الليبين من قاعدة وادي الدوم ، لنبق في العراء تحت حرارة الشمس اللاذعة وبرودة الليل القارصة . فيما تم نقل العقيد خليفة حفتر ومعاونيه إلى العاصمة انجامينا، ومكث باقي الأسرى حوالي ثلاثة أيام وهم يتعرضون للإهانة .وتسخير بعض الجنود الأسرى الليبين في خدمة الجندي التشادي في غسل الملابس والطهي .
بعدها تم نقل الأسرى إلى العاصمة انجامينا، وطافوا بهم في شوارعها حفاة ونصف عراة ليتكفل التشاديون بالقارورات والاحذية لإذلالهم في منظر مؤلم وكارثي ومأساوي .
هؤلاء الأسرى واجهوا الكثير والكثير من الصعاب، وعانوا ويلات السجون وظلم السجان الذي لم تاخذه بهم رحمة ولاشفقة وهو يمارس عليهم شتى أنواع العذاب والتنكيل .
كم هو مؤلم وأنت ترى من كانوا معك قبل لحظات فقط جثث هامدة ولا أحد يبالي بدفنهم،نزفوا على تلك الرمال الساخنة حتى الموت وكان أنينهم يفطر القلب.وترى الأسرى الأحياء منهم، يذرفون تحت الضرب والإهانة والتهديد دموعاً غالية هي اعز مايملكون ، ليس خوفا على أنفسهم ، بل حزناً وكمداً على وطن نكرهم وقيادة تنكرت نكرهم لهم وعدو يعذبهم ويفتك بهم ، ويتركهم لتكون الحشرات والدواب والقمل رفيقا لهم. هذا كان حال الأسرى أما الجرحى ممن تمكنوا من الفرار بجراحهم فقد فروا عبر تلك الجبال الشاهقة والصحراء الوعرة، حتى مات أغلبهم ألماً وعطشا.
المؤلم والأشد أيلاماً أن عظام ورفاة الكثير من جنودنا لازالت مرمية في تلك الصحراء القاحلة ولازال أسرى تلك الحرب يعانون الأمرين بعد مرور أكثر من سبعة وثلاثون عاما على تلك المأساة لازال الجرح ينزف. هذا جزء من تاريخنا المؤلم الذي كتب بأحرف من دم.
ملاحظة
كان بإمكان آمر المحاور العقيد خليفة حفتر الهروب من المعركة ولكنه فضل المقاومة حتى حدث ما حدث.
الصور من صفحة الأستاذ المبروك المغربي الرسمية على الفيسبوك