سبها / كتبت: منى توكا شها.
شابة تبلغ الثامنة عشر ربيعاً، من دولة يعاني أغلب شعبها الفقر و البطالة، ربطت الأحزمة وشدت الرحال إلى الأراضي الليبية حيث العمل والمال.
لم تفكر مرتين، قالت إنها ستعمل مدبرة في المنازل تجمع مبلغاً مالياً ومنها تعود إلى بلدها، لتعد العدة لتلوين “القفص الذهبي” وتدخله مكتفيةً كما تفعل الفتيات هناك بعد البلوغ القانوني.
أقدمت على الخطوة بكل شجاعة مقتديةً بتجربة شقيقتها الكبرى في دولة الكويت حيث عادت منها بسعادة ملؤها النفس والوجه والحساب البنكي.
لا نستطيع أن ننكر بقول شعارات رنانة “بأن السعادة لا تجلبها الأموال، فبالنسبة لكل الشعوب الفقيرة المال هو الحل لأغلب مشاكلهم وإبعاد تعاستهم”.
“مدينة بيكو بامبي” فتاة من دولة أثيوبيا التي تقع في القرن الأفريقي وتنتمي إلى عرقية “الأورومو” وهي عرقية كوشية وأمة أصلية و تعتبر أكبر مجموعة عرقية هناك حيث يمثلون 45.5 % من سكان أثيوبيا ويتحدثون لغة الأورومو.
بداية الرحلة
حطت الطائرة التي تقل الشابة “مدينة” إلى ليبيا قبل 7 أعوام، مع الوكيل المختص عن جلب العمالة، وطأت قدماها لأول مرة أرضا غير أثيوبيا، وهي محملة بآمال وأحلام و طموحات، ولا تدري هل ستعود من جديد إلى بلدها بنفس الأحمال الوردية أم ستعود محملة بالمآسي والظلمات؟ لا تدري الشابة مدينة، فهي سعيدة جداً لأنها بدأت أول خطوة نحو التخلص من أثقال الفقر.
بعد وصولها انتقلت فوراً إلى البيت الذي ستعمل به في مدينة بنغازي، فاستلم رب البيت جواز سفرها ومستنداتها كنوع من الإجراءات الاحترازية لضمان عدم هروبها أو القيام بأي عمل غير قانوني.
ولأن الشابة مدينة تسافر خارج بلدها لأول مرة، ولأنها لا تجيد اللغة العربية، لم تفهم نظام العمل، فبعد أقل من شهر وبعد عدم تلقيها أي أجر مادي، تواصلت مع أصحاب المنزل ولكنهم نهروها وتحدثوا معها بطريقة بها من الشدة التي لا تستطيع أن تتحملها شابة صغيرة تغترب لأول مرة.
قررت الشابة “مدينة” ترك المنزل وخرجت دون أن تحمل أي شيءٍ من أغراضها.
بدأت تجوب هائمة شوارع بنغازي بطريقة عشوائية فهي لم تخرج قبل ذلك من المنزل حتى حل عليها الليل، وجلست مستسلمة للبكاء والخوف قبل أن يجدها أحد عناصر الشرطة الذي لم يجد أي لغة مشتركة ليتحاور بها غير لغة الإشارة، هي لا تعلم اسم الحي ولا تحفظ أية أسماء وهو لا يعلم سبيلاً إلى مساعدتها.
الشرطي علم فقط أنها تائهة وأنها وافدة جديدة وإن بقيت في الشارع قد تتعرض للاستغلال أو ما هو أسوأ، توصلت سلسلة حلوله إلى أن يذهب بها إلى السجن النسائي وأخبرهم بأن تبقى إلى أن يجدها أحد.
بقيت الفتاة مدينة عدة أيام هناك ولم يبحث عنها أحد، أيام مرعبة قضتها في ذلك السجن، تصفها بالمرعبة بسبب النزيلات هناك، لم يحل بينها وبين أن تكون ضحية لهن إلا الحماية التي وفرتها لها الشرطيات.
مضت أيام ليست بالقليلة بين القضبان محمية قبل أن تشفق عليها إحدى الشرطيات وتأخذها إلى منزلها لتوفر لها الأمن بعيداً عن قضبان السجن.
مر الوقت فقررت والدة الشرطية أن تأتي إلى مدينة سبها لتسكن فيها واصطحبت معها الفتاة مدينة لتخرج لأول مرة من مدينة بنغازي منذ وصولها.
رب محنة في طيها منحة
في سبها عاشت الفتاة مدينة خمسة أعوام عند مضيفتها والدة الشرطية وهي امرأة في الستينات من عمرها لا يتحدثان ولا يتواصلان إلا للأكل ،فلا لغة مشتركة بينهما غير لغة الإشارة وبضعة كلمات، وخلال الأعوام الخمس “مدينة” كانت قد فقدت الآمال كليا في أن تعود لأهلها أو تعرف شيئا عنهم فهي لا تحفظ حتى أرقام هواتف أقاربها في أثيوبيا.
هنا تبدأ قصة من روت لنا حكاية الشابة مدينة بتفاصيلها والتي أعادت إحياء الأمل في قلب ابنة بيكو بامبي.
الفتاة التي فضلت عدم ذكر اسمها (ت. م) تسكن بنفس الحي الذي تقطن به الشابة مدينة ومضيفتها والدة الشرطية، حيث تقول إنها التقت بالشابة مدينة بعد سنتها الخامسة في سبها عن طريق الصدفة وذلك حين زارتهم مدينة مع مضيفتها عديد المرات.
تقول (ت. م) إنها تقربت من مدينة بعد تلك الزيارات وحاولت التعرف عليها وعلى قصتها وذلك بالتواصل باللغة الإنجليزية التي تجيد القليل منها وبعض الكلمات العربية التي تعلمتها.
وأوضحت (ت. م) أن مدينة أخبرتها أنها لا تعلم إن كانت عائلتها تظن أنها ميتة أو مفقودة، وأنها فقدت الأمل واستسلمت لليأس، ولا تحفظ أرقامهم والأسوأ أنها لا تجيد استخدام التكنولوجيا .
تقول الشابة (ت. م) إنها قررت أن تحاول مساعدتها للوصول إلى أهلها والتحدث معهم بشتى الطرق، وأول طريقة هي استخدام مواقع التواصل الاجتماعي جاعلة إياها تكتب أسماء إخوتها و أقاربها في مربعات البحث ولكن دون جدوى.
تتابع (ت. م) أن الشابة مدينة فقدت الأمل ولم تعد لزيارتها ولكنها فكرت كثيراً ثم قررت أن تساعدها بإيجاد أي أثيوبي وترسل له صور مدينة لينشرها مرفقة بملاحظة صوتية تتحدث فيها بلغتها الأورومية في مجموعات النشطاء الأثيوبيين الإلكترونية.
وأضافت أنها بقيت أياما تراسل العديد من الأثيوبيين ووجدت إعلامية أثيوبية تدعى “شاكيرا آدم ” أبدت تجاوبها ثم لم تجب على الرسائل بعد ذلك مشيرة إلى أنها تواصلت مع أعداد كبيرة من الأثيوبيين ولكن لا أحد أخذ القصة على محمل الجد.
بعد عدة أيام تقول (ت. م) إنها التقت بمدينة وأخبرتها عن هذه المحاولات فتخبرها أن من تحدثت معهم ربما من عرقيات أخرى قد لا يساعدونها بسبب ما تعانيه أثيوبيا من مشاكل عرقية.
عبدالرحمن قادر
تقول (ت. م):” كتبت في مربع البحث على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك كلمة “أورومو” ليظهر لي عدد من الأفراد بينهم فرد يدعى ( عبدالرحمن قادر).
تواصل :” راسلته وسألته إن كان من عرقية الأورومو ليجيب مؤكداً وأخبرته بكل التفاصيل وأرسلت له الملاحظة الصوتية التي تحدثت فيها مدينة وعرفت بنفسها ومدينتها في أثيوبيا، فأجاب عبدالرحمن قائلا : إنه بالفعل يدرس في تلك المدينة وهو يعيش في قريةٍ لا تبعد عنها وأنه مستعد لمساعدتها.
تقول (ت.م) إنها جعلت الشابة مدينة تتحدث مع الشاب الأثيوبي لإعطائه المزيد من المعلومات. مشيرةً إلى فرحة مدينة التي تحدثت لأول مرة مع أحد بلُغتها الأم منذ 7 سنوات.
أخبرت مدينة الشاب عن عمها الشرطي وهو معروف بتلك المدينة ليعود بعد يومين برقم هاتف عمها الذي لم يصدق الشاب ولم يقتنع أنها قد تكون حية ترزق بعد هذه الأعوام.
تحكي (ت. م) أدخلت رقم الهاتف وإذا به يرن يجيب العم وتقول مدينة “عمي هذا أنا مدينة” ليجيب العم ” لا إله إلا الله محمد رسول الله” لينهمرا في البكاء لأكثر من دقيقة. يخبرها العم أنهم فقدوا الأمل في أن تعود و ظنوا أنها ميتة تحدثا لربع ساعة قبل أن ينقطع الخط.
تشير (ت. م) أنهم حاولوا الوصول إلى والدة مدينة وأختها لكن العم أخبرهم أنهم رحلوا إلى مدينة أخرى وليس لديهم هواتف ولا إنترنت. وتظن مدينة أن مكروهاً قد أصابهم ولكن المحاولات لم تنتهِ ولكن تمر الأيام و تختفي مدينة دون أثر قبل عام ولا ندري ماذا حصل لها؟!
هل كان هذا الاختفاء بسبب ظهور بطل ثالث يتكفل بإنهاء قصة مدينة بيكو بامبي بشكل سعيد؟ أم انتهت قصتها بالفعل بشكل مأساوي؟ أو ربما هي بداية تراجيديا أخرى في مكان آخر؟ أين أنتِ يامدينة؟