مقاطع من تراب درنة

مقاطع من تراب درنة

عوض الشاعري

(١) تراب درنة

أول ما وعيت على صوت جدتي فاطمة الشاعري.و فرحها الطفولي عندما يصطبغ الأفق الغربي بالغبار. في بلاد الناس .و تظل تلتقطه بعناية حبة حبة و هي تترجز ( تراب درنة يا دواء يا حنة .. ياريح يآتي من جناين هلنا) و تأمر  امي و عماتي و كل النساء الحوامل .. بخلط العجاج بماء البئر واستخدامه في مواسم الوحام..كمقوي لأجنتهن وحتى يتخلل الوطن عبر مسامات صغارهن..و هي تروي لهن قصص أهلها الأندلسين عبر الأزمنة و تبدأ في سرد الحكاية..بالصلاة و السلام على خير الأنام*)

 

.. 

 

قالت جدتي

بعد أن عاش أجدادها سنين الحلم في بلاد الأندلس.. أن جدها جاءته المنية  و ترك امرأته و أبناءه الثلاثة في مرحلة الشباب.الذين  اجتمعوا بأمهم  و قرروا الرحيل عن غرناطة عائدين إلى البلاد التي انطلقوا منها و قضاء فريضة الحج و  البحث عن ممتلكاتهم في المدينة المنورة . فقاموا بركوب البحر و عبروا العدوة باتجاه طنجة و بلاد مراكش.و اتفقوا على قضاء يومهم و اللقاء بعد آذان المغرب كي ينطلقوا مع إحدى القوافل المتجهة شرقا.

وعند الموعد قال أحدهم ..؛

أنا لن ارحل معكم ..لقد اعجبتني هذه المدينة.. ووجدت صنعتي و حرفتي في الحياكة هنا.. ..و أستطيع العيش هنا.. وإنا اتنازل عن حصتي في ميراث ابينا و أن قدر لي أن أذهب لحج بيت الله سيسره الله لي

و ودعوا بعضهم البعض و انطلقوا نحو القافلة..

كانت  جدتي تسرد حكاياتها عن اجدادها و عن مخاطر الطريق ..و تصور المتاعب التي تعرضوا لها..مثل قطاع الطرق و ملاحقة جنود الإسبان و الأندلسيين الذين قويت شوكتهم بعد أن  صارت لهم دولة. وكانت جدتي تردد.. يا سايقين الأبل يا جمالة..بلادي بعيدة و العرب قتالة…. بلادي بعيدة  من تونس و غادي

 

  مقطع 2 من رواية .. ( تراب درنة)

 

قالت جدتي .. بعد أن وصلا إلى صفاقس..كانت الحياة الاجتماعية هناك منقسمة بين بقايا البربر و الفاطميين الذين أتى بهم المعز لدين الفاطمي فجاؤوا لتأديب أمير صنهاجة. و بن باديس. وكان  المورسيكيون الذين فروا من الأندلس..و الحكم في يد الصفيرة عزيزة . فقال الأخ الأوسط لأخيه ..لقد وقعت في غرام هذه البلاد ..و وجدت الحياة هنا تليق بي ..في ظل التعايش و أنا أستطيع العيش بسلام هنا ..فأذهب أنت لقضاء شعائر الحج.. و إن رجعت في يوم من الايام..أسأل عني و ستجدني إن شاء الله… و ذهب الأخ الأصغر. متجها نحو المشرق.. ملتحقا بأحد القوافل…. مرتجزا إحدى  الموشحات

 

جادك الغيث إذا الغيث هما .. يا زمان الوصل بالأندلسي

 

قد مضينا ننثر الخير وما .. نامت الأعين عند الغلس

 

إننا مجد وعز إننا .. عائدون أمتي لا تيأسي

 

يا زمانا هل نسيت المسلما .. نور هذا الكون رواء الظما

 

أقمراً كنا شموساً أنجما .. ومضينا كي نغيث الأمما

 

ننشر الحب ونمضي قدما .. حلل النور بلادي فاكتسي

 

أمتي صبرا فإنا لن نغيب .. لم يعد يطربنا ذاك النحيب

 

فالحبيب الحر يسعى للحبيب .. فجرنا يا أمتي صار قريب

 

آن أن نرجع ذا المجد السليب .. عائدون أمتي لا تيأسي

 

 

 مقطع 3 من رواية ( تراب درنة )

 

و راح تذهب به بلاد و تحط به قرى مثل شاعر تروبادور ..يحمل وطنه على ظهره  ككيان اسطوري قابل للتحقيق.. و هو ينشد معزوفته الأبدية كلما جن الليل أو عندما يخلو إلى نفسه و يسترجع ذكرياته و كثيرا ما يعاوده الحنين. إلى مرابع الصبا و حلمه الأبدي بالوصول إلى مكة.. ..فكان يستخدم مهارات اكتسبها في علوم الزراعة و التاريخ و الفلك و الطب و غيره .. درأ للسأم و تمضية الوقت عندما يصيبه الملل..في الدندنة  و مناجاة المساء و ليالي الأندلس التي تتباعد كل يوم أكثر من ذي قبل ..

لن تُرجعوه إلى محنةِ

الليلِ

لن تلتقوه مع الجرحْ

وحدَه يذهب للفجرِ

يزرع في الطين خطوتَهُ

ثم يبصر نرجسةً فيخاطبها

بالبكاءْ

تحت إبطه عَصْرٌ

وفي كفّه لم ينم حجرْ

تاجه الحلمُ

والصرخات ضفافهُ

ها يتلألأُ

يرجع من قبّةٍ ما حوَتْهُ

ولا ينتهي

لا يريد غيومًا لأيامهِ

ها هو الآن قربَ

الصخورِ العتيقه

يلبس حزنَ الشجرْ

يتظاهر في الطرقاتْ

وفي الليل يحكي لنا عن

وطن

رائعٍ كالأغاني..

 

قالت جدتي و كأنها تقرأ مخيلتها لكتاب التاريخ الذي توارثته عن أهلها :

المدن التي تتعاقب عليها الحضارات والحروب والمآزق وتبقى صامدة بوجه الزمن هي تلك المدن التي لم ترتبط يوما بحضارات او اوضاع سياسية بعينها فينتهي دورها بإنتهاء تلك الحضارة وفي المقابل هناك مدن مستمرة مع الزمن مع الحضارات المتعاقبة.

 

بين أعراف أوابدها المطلة على البراري الشاسعة مراقد الشموس وآفاق البحر المسكونة  بزرقة السماء تتكئ الزاهرة مدللة الزمان  لا تظمأ ولا تجوع  ملاذ الخليقة الأولى من كل حدب ولون ولسان هبة الشلال حميمة واديها العامر بالخضار، يذكرها التاريخ بما قبله من غوابر الزمانات  سبقت حضارات عاصرت حضارات  أثرت وتأثرت بحضارات لم يغادرها التاريخ يوماً  فظلت أيقونة للعناد المعرفي للانتصار على آفة النسيان  رغم قساوة بعضٍ من مراحل مقاومتها أن القديس ” مرقس ” ليبيتوس أي مرقس الليبي قد ولد في الوادي الذي مازال يحمل اسمه بالناحية الغربية قرب .الإنجيل المرقسي قد كتب في درنة  وتقع في هذا الوادي عين الناموس  وعين أم عمود ” المعمودية ” وكهف التوليد وبالقرب منه على شاطئ الاثرون كهف مريم ووادي الكرك   تلك المجاوارات و وادي الانجيل والكنائس المطمورة الصخرية والتي توجد أكبرها وأقدمها إطلاقا بالشاطئ الصخري للمدينة  وقد كانت درنة أسقفية لليبيا السفلى ومن اللافت أن تسمية اكليل الجبل “نبات (الكليل) د كانت لهذه المدينة التي طالما اكتفت ذاتياً بالمشرب والمأكل والملبس وطبيعة المعرفة  أن تكون مناوئة للكثير من أنظمة الحكم منذ عهد الوندال.  فهي مدينة التعايش السلمي والمحبة  والتي علّمها الزمن أن من يخطأ في التاريخ يخسر الجغرافيا  وعلى لسان أهلها جملة طالما رددوها

 ” درنة لم تلدُ أحداً لكنها في القلوب ولدت

 كانت جدتي تسرد الحكاية بطعم أندلسي  و هي تقول :

 

ليس ثمة شيء رائج هنا أكثر من الحكايات .. ولا شيء يكسر حدة الضجر في المساءات الطويلة  , غير قصاص ينسج الحكاية كحاو محترف …. فبلدتنا مشهورة بين القرى منذ بدء تكوينها ب \”أم الحكايا \” تقول الأسطورة : إن حكاءً شماليً رأى ذات حلم أن ربة السرد تشير باتجاه الجنوب , فامتطى زورقه الصغير ويمم شطر هذه القرية السارد أهلها .. فتلقفه الرعاة … وراحوا يقايضونه حكاية بحكاية …فاختلطت الحكايات تسعى عبر دروب القرية وأزقتها كتنين له ألف رأس ورأس. اختلفت الروايات عن أصل الحكاية … لكن أكثرها قرباً للواقع تقول : أن محبوبة ذاك الشمالي الشقراء اقتلعت من أدغال جزيرتها شجيرة تين صغيرة , ودستها في ثنايا متاعه كي لا ينساها في ليالي الغياب .. وأنه غرسها على شاطيء قريتنا وظل يحكي لها كل ليلة حكاية , حتى نمت وأثمرت أغصانها … وقيل أيضاً أن نساء قريتنا في مواسم النضج ..كن يفطمن صغارهن على حبيبات التين البيوضي ويحكين لهم حكاية جديدة … عن راع شجاع ظل يحكي لنفسه ألف حكاية وحكاية حتى لا يصرعه النعاس , فتضل القطعان أو يداهمها الغزاة . وعن راع آخر أرَقه الحنين لمضارب قبيلته فنشأ ينفث وجداً أبدياً في مزماره مناجياً طيف طفولته الأولى …فاستقر القمر في سماء قريتنا ألف عام وعام … وانشطر الرعاة إلى قبيلة من الحكائين وعشيرة من الشعراء . في قريتنا تبدأ الحكاية بلمحة .. بكلمة … أو بجملة بسيطة يتلقفها الناس ويخلعون عليها أجزل ما لديهم من كلمات… وعندما يجن المساء , تكون ثمة حكاية جديدة تروى .. وتنبجس الحكايا كينابيع صغيرة تسري ببطء عبر أخاديد الكلام الأزلية في ذاكرة طبرق فتنساب أكثر وأكثر …ثم تتدفق كسيل عرم يفيض عبر أودية التذكار التي لم يزل أهالي درنة يفخرون بملكيتها . من سارد عليم يستدرج مخيلتك ب رقة ولطف ويطوف بك عبر فضاءات من وهم …ثم ما ينفك يأتيك بما لم تكن قد أحطت به خبراً أحياناً … أو بما لم تكن تتوقعه في أغلب الأحايين …. وليس ثمة أجمل من قرية عانقت مضاربها أعتاب البحر ومفارق الصحراء …بعد أن توجتها أحلام أبوللو وبوسيدون وكل آلهة الجمال في الزمن الغابر …ثم نسجت عبر مرافئ الحلم الجميل وأزمنة الفاتحين.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :