- المهدي يوسف كاجيجي
في يوم 9 يناير من عام 1961م وصل الشاب الفلسطيني واصف الطاهر الى مطار طرابلس للعمل في وظيفة مترجم بوزارة المالية. رحلة عمل امتدت الى أكثر من خمسة عشر عاما، عمل فيها مترجما لوزارتي المالية والنفط، وانتدب مترجما للقصر الملكي، ومارس الكتابة الصحفية بتوقيع مستعار على صفحات “الحرية” فكانت لأبوابه “عالم غريب ومجنون،” “وحظك هذا الأسبوع،” وترجمته للتقارير الصحفية الاجنبية ونقلها بروح عربية، الأثر الكبير في رفع ارقام التوزيع للجريدة. من كتابه ذكريات خمسة عشر عاما في ليبيا، اقتطفنا بعض من الفقرات.
الوصول إلى ليبيا
من مطار طرابلس الدولي إلى قلب المدينة، حسبت لأول وهلة أن هناك خطئًا ما.. وأنني في الطريق من مدينة الرملة الفلسطينية إلى مدينة يافا. فقد كانت السيارة تسيير عبر (بيارات) مزارع البرتقال، وفيما كان الهواء يحمل إلينا بسخاء اريج زهرها المعطر. في الصباح توافد الزملاء على مكتبي مرحبين على نحو أَنساني غربتي البعيدة، وحنيني الجارف إلى الأهل والأصدقاء. وعندما عدت إلى الفندق اتصلت بأسرتي في عمان، وقلت لوالدتي: لا داعي للقلق، فقد وجدت هذا البلد أفضل بكثير من كل ما سمعت وتوقعت.. أنا هنا بين اهلي وعشيرتي.. أنا هنا في وطني الثاني. وللمرة الأولى منذ ايام نمت نومًا طويلًا عميقًا.
أهل كرم
من عادة الحكومة الليبية ان توفد من يستقبل موظفيها الجدد، وأن تستضيفهم خلال الأيام الثلاثة الأولي لوصولهم، وقبل انقضاء أيام الضيافة وجدت سكنا مناسبا أقيم فيه مع رفيقي السفر. كانت شقة متواضعة في مبنى من طابقين في زنقة ” الهنشير ” المتفرع من شارع ميزران، مالكها رجل فاضل اسمه الحاج يونس صاحب المخبز المجاور أو ما يطلقون عليه “كوشة” بإيجار مناسب وهو عشرون جنيها فقط في الشهر. وعندما انتهى الشهر الأول واستحق الإيجار، فكرت في ان قسمت العشرين جنيها على ثلاثة أشخاص قد تثير مشكلة حسابية مستعصية، فذهبت للمالك مقترحا رفع الإيجار إلى واحد وعشرين، ليدفع كل واحد منا سبعة جنيهات حلًا للمشكلة ونرتاح من الكسور، قهقه الحاج يونس طويلًا قبل أن يجيب: إنت أكرم من إشكون، الإيجار ينزل إلى ثمانية عشر جنيها، يدفع كل منكم ستة هذا هو الحل بشرط ان نشرب طاسة شاي الآن.
طرابلس عاصمة رائعة، تجمع بين ضخامة المدن الكبيرة بشوارعها المنسقة وميادينها الفسيحة، وبين وداعة المدن الصغيرة ببساطتها وألفة أهلها. وفى الواقع كانت الغالبية العظمي من الليبيين الذين تعاملت معهم سواء في الوزارة أو خارجها على قدر كبير من الطيبة والتسامح والنبل وحسن الوفادة.
اليوم الأخير
16 يناير 1976 كان موعد مغادرتنا طرابلس، وصل خليفة سائق الوزارة الذي تبرع مشكورا بمرافقتنا إلى المطار بسيارته الصغيرة الخاصة، ومعه شقيقه بسيارته الكبيرة. وقاما بنقل الحقائب وتحرك الركب عبر شوارع شهدت أحلي سنوات العمر، ولم أكن بحاجة إلى آلة تصوير لالتقط هذه الصور الوداعية، فقد كانت ذاكرتي تختزن الصور تسجلها على نحو لا يمكن للزمن أن يمحوه. في المطار أفرغ خليفة الحقائب والصناديق، وعلق موظف الطيران: أخي عندك وزن زائد. فأجبت: اعرف يا اخي لأننا نغادر نهائيا بعد 15 عامًا وانا جاهز للدفع وأخرجت النقود فقال: خلى الفلوس في جيبك، يكفي أنك خدمتنا خمسة عشر عاما. وناولني التذاكر قائلا: رحلة سعيدة ومرحبا بك في وطنك الثاني ليبيا وفى أي وقت.
هذه فقرات اقتطفتها لكم من كتاب يحتوي على أكثر من 200 صفحة. معزوفة حب كتبها واصف الطاهر تعبيرًا عن حبه لوطنه الثاني ليبيا. عندما وصلني خبر رحيله رحمه الله، اتصلت بزوجته للتعزية فقالت لى: لآخر لحظة من عمره كان يذكر ليبيا وأهلها.
رسالة عتاب مر
تذكرت ذلك وانا اقرأ الرسالة الحزينة، التي تبادلتها صفحات التواصل، في شكل نداء موجه من السفارة الفلبينية، نيابة عن جاليتها المقيمة في ليبيا، مشيرة للشكاوى التي تلقتها السفارة، عن تعرض عدد من أعضاء الجالية والذين يعمل معظمهم في القطاع الطبي، لسوء المعاملة من قبل زملائهم الليبيين، في أماكن العمل والتي انتقلت للأسف إلى الأماكن العامة، التي تتضمن السخرية منهم ونعتهم بحاملي فيروس كورونا. وتشير الرسالة إلى أن عمر الجالية في ليبيا أكثر من نصف قرن، وهم يشكلون أكبر جالية مغتربة في ليبيا من شرق اسيا، رفض معظمهم الدعوة لمغادرة البلاد، وواصلوا أعمالهم مبادلين الشعب الليبي كل الحب والاحترام، مضحين بحياتهم جنبا إلى جنب مع زملاؤهم الليبيين في رعاية المرضى والجرحى، مواصلين العمل في ظروف صعبة لمقاومة هذا الوباء اللعين.
من أين جاء كل هذا الغرور؟
ماذا حدث لليبيين وأخلاقهم؟ من أين اكتسبوا هذه القسوة والغلظة وقلة الأدب، في تعاملهم مع الآخر ومع أنفسهم أيضًا ؟ أين ذهب الكرم والفزعة للمظلوم، والكرامة وعزة النفس، الذي كان يتسم بها الليبيون أيام زمان. في سنوات القحط والفقر والمجاعة، حتي في السنوات التى تعرضوا فيها للإبادة والغربة والتشرد ؟، أنا اتذكر عندما كنا نتذوق اللحم في المناسبات، ونجتمع على قصعة واحدة نقوم عنها بنصف بطن، كان آباؤنا وأجدادنا بعد كل صلاة عشاء، وقبل ان يغلق المسجد أبوابه، يبحثون في أركانه عن عابر سبيل غريب، يتسابقون على استضافته. كل من عملوا في ليبيا في حقبة ما بعد الاستقلال، لا زالوا يحتفظون لنا في ذاكرتهم بأعطر وأجمل الذكريات. من أين جاء كل هذا الغرور و” العنطزة ” الفارغة؟ والله لو قرأتم ما يتداول عنكم من حكايات يندى لها الجبين، يرويها المهاجرون الأفارقة، من الذين أوقعهم حظهم التعس للمرور عبر اراضيكم، وما تعرضوا له من ذل واغتصاب واكل حقوق، ستشعرون باحتقار شديد لانفسكم. والآن بغبائكم وجهلكم وغروركم الزائف، تدفعون بكل ما تبقى لكم من خبرات انتم في اشد الحاجة اليها. ليرحلوا عنكم غير مأسوف عليكم .
أفيقوا يرحمكم الله
التعامل مع الآخر واستقطابه، هو نوع من الفن، أجاده أجدادكم. وليس بالمال وحده تكتسب الصداقات، بل بالأخلاق وحسن المعاملة وتبادل المصالح. والعالم قبل كورونا سيكون مختلفًا بعدها. تأملوا ماذا جري؟ اغلقت امريكا الباب في وجه الحليف الأوروبي، وواجهت دول الاتحاد المحنة كل بلد على حده، ومزق الإيطاليون علم الاتحاد الأوروبي وصفقوا وبكوا تأثرا وهم يستقبلون المساعدات من أعداء الامس الروس والصينيين والكوبيين، وأثبتت المحنة حقيقة، أن لا أحد ينجو بمفرده،العيش معًا أو الموت معًا. أفيقوا يرحمكم الله.
• الصورة: العلم الكوبي يتقدم المساعدات الكوبية لإيطاليا، وعلى المساعدات الروسية رسم العلمين الايطالي والروسي على شكل قلبين، وكتبت عبارة باللغات الإيطالية والروسية والإنجليزية ( من روسيا مع الحب ).