علي جمعة إسبيق
الشجرة العالية والضخمة، التي تغطي أغصانها مساحة كبيرة من الغابة، كانت شاهدة على نشوء علاقة وطيدة بين صياد وطريدة، كانت الحمامة البيضاء ذات العينين الحمراوين، تتابع تحركات الصياد باهتمام كبير، بيد أن خوفها منه يجبرها على كتمان هديلها حوله، وإيقاف تحليقها فوقه.. الصياد لم يكن يعلم أو يحس بمراقبة الحمامة لتحركاته بشغف كبير، ويوم بعد يوم، بدأت رهبة الصياد تغادر قلب الحمامة الصغير، وبدأ الصياد يلاحظ وجودها معه في هذا المكان المقطوع من الغابة، كان يؤنسها وتؤنسه، حين تنشأ العلاقات الغريبة الشبيهة بالشذوذ عادة ما تكون هذه العلاقات متينة وقوية، لأنها لا تخضع لأي قانون قديم، بل تصنع لنفسها قانونا فضفاضا، يتماشى مع غرابتها، بعيدا عن رتابة وملل العلاقات العادية والمتعارف عليها، لقد كانت علاقة الجميلة والوحش وما كتب عنها تشير لأن الشذوذ هو عدم الاحتكام لمقاييس الجمال أو لميلان كفة المال أو تغليب لمصلحة السلطة، العلاقات التي تتقبل نفسها ببشاعتها فتكتشف في باطنها كنز من الذهب لا يصدا أبدا، أو كعلاقة عازف المزمار والأفعى، حيث قرر كلاهما أن ينتفع من الآخر الموسيقا مقابل الماس، وحين دخل ابن العازف كانت الفاجعة وقرار الفراق، كأي علاقة وطيدة يفسدها دخول الأغراب وتسلل الآخر عبرها..
يوم بعد آخر، ولحظة بعد أختها سلمت الحمامة للصياد زمام أمرها، باتت لا تخشى اقترابها ولا يزعجه وجودها، تحليق دائم وهديل لا يتوقف، يطعمها من زاده ويألف وجودها، لكن دائما هناك من يجحظ بعيونه داخل كل شيء، باتت الحيوانات ترى تآلف الصياد والحمامة، الأمر الذي دعا إلى الحديث والتقول عن العلاقة الغريبة بينهما، بدأت الحيوانات تدبر بليل وتكيد بنهار لنزع فتيل المودة وانهاء هذه المحبة..
غاب الصياد عن الشجرة ليوم وليلة، وحين عاد ونادى على محبوبته لم تستجب، كرر النداء، لكن لا أحد يلقي لصراخه ببال، وحين يئس غادر وحزن عظيم يملأ أركان قلبه المحب، غادر على أن يعود، وقبل ذلك نثر الحبوب، لعلها قد ذهبت لتبحث عن قوتها كما هو الحال مع الصياد، في هذه الحياة وإن كنا بحاجة ماسة للحب، إلا أنه وامام الأشياء الأساسية الأخرى يعتبر شيئا ثانويا. فالكائن الحي لا يعيش دون طعام أو شراب، لكنه سيكون قيد الحياة دون الحب، وإن كانت حياة منقوصة، إلا أنها تستمر..
كانت محبوبة الصياد الحمامة بمكان قريب تسمع نداءه لها، لكنها لم تكن قادرة على أن تجيب حبيبها، فالغربان قد أشبعوها ضرباً وتعذيباً، وحبسوها عنه غصبا..
كان كل هذا بتخطيك وتآمر من البومة العجوز التي تسكن الشجرة المقابلة.
البومة التي أدخلت منقارها الفضولي في هذا الحب منذ أول يوم، فهي تراقب كل شيء ليلا نهارا، ولأن البوم لا يحمل إلا قلبا مشوها مشؤوما، فقد حرضت الغاب على الحمامة المسكينة، وحين وقفت بين يدي الأسد بثت سمومها برأسه..
الأسد: كل هذا في غابتي وأنا آخر من يعلم؟
البومة: لقد انتابنا الكثير من الحرج والتردد يا سيدي ومليكي، ولولا حرصي على سمعة غابتك لما تكلمت! لكنه واجبي من ألح علي يا ملكنا!!
الأسد: وكيف تجرأت حمامة وقحة على فعل شيء كهذا؟
البومة: في الحقيقة يا سيدي لقد حدث أكثر من حب بريء، بين حمامة وصياد.
الأسد: ما الذي تلمحين إليه أيها البومة العجوز؟
البومة: لقد رأيته يقبلها، وأظن لا لا لا داعي لهذا!!!
الأسد: تكلمي هيا..
البومة: أنت تعلم يا سيدي أن الحمامة البيضاء ذات العينين الحمراوين، قد وضعت بيضها منذ أيام قليلة.
الأسد: وأي بأس في هذا؟ كل الحمامات تبيض!!
البومة: أعتقد يا سيد القفار وملك الغابات والأنهار، بأن البيض لن يفقس بفراخ كما اعتدنا.
الأسد: وبماذا سيفقس إذا؟
البومة: حسنا ربما بشر برأس حمامة، أو حمامة برأس بشر
الأسد: أيعقل أن يحدث هذا؟ أتبيض الحمامة مسخا؟
البومة: سأحكي لك يا مولاي وتاج رأسي حكاية حدثت منذ اعوام وبعض أبطابها أحياء في المزارع المجاورة لغابتك ويمكنك أن ترسل لهم لتسألهم بنفسك.
الأسد: حسنا تكلمي يا بومة
البومة: كان يا سيدي وسيد الحيوانات ومليك الوحوش، في مزرعة قريبة من غابتكم هذه، حصان أبيض قوي جميل، يحصد الألقاب لصاحبه حصدا، ما دخل لسباق إلا وقد حجز المركز الأول قبل أن يبدأ السباق حتى، لما له من قوة وبأس وجلد وسرعة، ليست لدى غيره من الخيل العتاق، وكان صاحب الحصان وفارسه الهمام، يحيط به عناية، واهتماما، فقد وفر له مكانا خاصا في اسطبل كبير يعج بأحسن الجياد، وجعل له طعاما مخصصا كأحسن ما يكون الطعام، وأجود ما يكون، وكان خلف الاسطبل يربط حمارة رعي حقيرة هزيلة ضعيفة، ولأن الحصان مغرور لم يكن له أصدقاء من الخيل، فصار يتسامر مع الحمارة ويغازلها، ويتكلم معها، حتى وقع كلاهما في حبال الآخر، بيد أن الحمارة كانت تقول له:
أين أنا؛ مجهولة النسب وضيعة المكانة قليلة الزاد، من حصان عربي أصيل مثلك؟ ولكن الحصان كان قد أحبها حبا جنونيا، لم يدع له عقلا يفكر به ولا عينت يبصر بها، فاتبع هوى نفسه ونزغة الشيطان وظل يحاصرها بصهيله المعسول ويراودها عن نفسه حتى أحبته، وذات يوم تقدم الفارس صاحب الحصان لخطبة فتاة وكان هذا بمصادفة جمعته بخصمه وابن عمه الذي أراد خطبة ذات الفتاة. ولأن الفتاة لا تريد أن ترفض أحدهما فتحرج فارسا من فرسان قبيلتهم، اشترطت أن يتسابق كلا الخاطبين، والفائز سيكون زوجا لها، هذا لأنها تضمر في نفسها حقيقة فوز صاحب الحصان الأبيض البديع والجواد القوي المطيع، لما ذاع من صيت حصانه وقوته وسرعته وكأنه البرق إذ عدا وكأنه السحاب إذا هدأ، فقرر صاحب الحصان الأبيض العاشق أن يطلقه من إسطبله المغلق إلى أرض مزرعته الواسعة ليتشمس ويستجم ويستعيد نشاطه قبل يوم السباق الموعود، بيد أن الحصان العاشق، ركض بجموح نحو معشوقته الحمارة وواقعها ..حين جاء الغد، وكان موعد السباق، تثاقلت سيقانه، وضعف جسده، وكان بالكاد يستطيع أن يهرول كأي حصان هزيل، فخسر سباقه الأهم، وخسر صاحبه محبوبته، حين خان الحصان الأبيض فطرته وجامع الحمارة، كان قد خان أصله، وخان صاحبه، وتسبب في كارثة كان من المستحيل مسامحته على خطئه هذا، فجلده صاحبه بكل قوة، ومنع عنه الطعام والماء، حتى ضعف. وشيئا فشيئا صار هزيلا، حتى أن الحمارة نكرته، وابتعدت عن مخاطبته، حين يهزم الكائن ينفض الجميع من حوله، حتى حمارته المفضلة.
مات الحصان وأنجبت الحمارة بغلا، ولكن لا أحد عاقبها، لأنها لم تعد كونها حمارة وانجبت بغلا، مع هذا عادت لطبيعتها واستعادت الحمارة رشدها، لا أحد يتفطن للحمير حين تستعيد رشدها.
وهذا يا ملك التيجان خبر ما قد وقع وكان من أمر الحمارة والحضان، فأمر بما شئت فإنك ملك لا يهان ولست بخوار ولا جبان..
زأر الأسد بكل قوة، حتى اهتزت الغابة والجبال والوديان، واجتمع عنده كل أصناف الحيوان، وأصدر أوامره للغربان، بتنفيذ عقوبة الموت تحت العذاب للحمامة، وأمر قطيع الضباع بالإيقاع بالصياد العاشق، الولهان، وبينما يرش الصياد القمح لمحبوبته علها ترجع وتعلم ببحثه عنها ومعاناته لفقدان إثرها، ظهر له الثعلب المكار، وأخبره بأنه كان يمرح ذات نهار، وعند نهر من الأنهار، وجد حمامة بيضاء بعينين حمراوين قد وقعت في شرك صياد قديم ومهمل، ولكنه لن يفصح له عن مكانها حتى يضع عنه بندقيته التي تزين كتفه، فاندهش الصياد، ووافق على عجل على كل شروط الثعلب المكار، وترك سلاحه وقصد أثر الثعلب ليخلص محبوبته، التي كانت قد فارقت الحياة على يد الغربان، وبعد مسير طويل، إذ بالثعلب يدخل وادي الضباع والسباع، وما إن داست قدماه وسط الوادي حتى خرجت له الضباع والسباع، بارزة لمخالبها وأنيابها في وجهه، حيث هاجمته ونالت مراد ملكها ونهشت عظامة، والبومة المشؤومة في غاية السرور والفرح، والملك المغفل لا يعلم عن المكيدة شيئا، لأنه وضع عقله في أذنه فقادته البومة للحكم الظالم والجور والبطش، فقط لأن الصياد أختار الحمامة على البومة..