عبد الرحمن جماعة
تقول العرب: “أسوأ من مغنٍ وسط”
ذلك لأن المغني الجيد يُطرب، والمغني الرديء يُضحك، أما المغني الوسط فلا يُطرب ولا يُضحك.
لستُ من هواة سماع الأغاني لكنني أحياناً أجد نفسي أمام أغنية فأجد نفسي أمام كلماتها التي رصفها مؤلفها بكل عشوائية، ولحَّنها ملحنها بكل ثقة وغناها أحدهم بكل (صحة وجه)، فأستغرب من جراءة الثلاثة!.
فهذه أغنية تقول كلماتها “حيه عليه النار كلاته”، يرفع المغني عقيرته وهو يؤدي هذه الكلمات، والأعجب من ذلك هو تفاعل الجمهور وتصفيقهم ولا أدري ما الذي أعجبهم في مشهد الهولوكوست هذا!.
في بعض الأحيان أحاول أن أترجم كلمات أغنية لأرى كيف سيكون تفاعل شخص أعجمي إذا تُرجمت له بعض أغانينا، فعلى سبيل المثال أغنية “جاته جلطة” والتي يُمكن ترجمتها إلى “He had a blood clot”، فإن الأمر بالنسبة لذلك الأجنبي لن يعدو كونه تشخيصاً طبياً لحالة مرضيَّة، وبالتأكيد هو لن يفهم كل هذا التفاعل والفرح والابتهاج والموسيقى المصاحبة والتصفيق لظهور هذه النتيجة المأساوية لهذا التشخيص!.
لكن أغنية أخرى مشهورة لا تكاد توجد أنثى في بلدنا إلا ورقصت على أنغامها، حيث يُعطي المغني الإذن لمحبوبته بالاتصال به في أي وقت، والتي يُمكن ترجمتها إلى “You have no problem to call me at any time”، ثم يبدأ في تفصيل هذا الإذن من أوقات النوم إلى وقت قيادة السيارة، وحتى عندما يضبطه شرطي المرور وهو يتحدث بالهاتف أثناء القيادة ليحرر له مخالفة، ثم تخيلت نفسي أنا شرطي المرور هذا، فعندها سأقتاده إلى السجن بتهمة الاستهزاء برجل أمن، ولن ينفعه حينها شهرته في الإفلات من أقسى عقوبة!.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد فالأمثلة كثيرة وتستعصي على الحصر ومنها أغنية “ندوّش بالمالقي امتاع الجمعية” وغيرها!.
قيل للأصمعي: لماذا لا تقول الشعر؟ فقال: “يأباني جيده وأبَيتُ رديئه”، وقيل للخليل بن أحمد: مالك لا تقول الشعر؟ فقال: “الذي أريده لا أجده، والذي أجده منه لا أريده”، وقال ابن المقفع: “الذي أرضاه لا يجيئني، والذي يجيئني لا أرضاه”، فهؤلاء هم فطاحلة اللغة، وأعمدة الأدب في زمنهم، وأشهر رواة الشعر وحُفَّاظه، إلا أنهم كانوا يخشون ذائقة الناس التي كانت في أوج رقيها!.
لكن.. ومع هبوط ذائقة العامة فإن رديء الشعر يجد ملحنيه ومغنيه، وساقط القول يجد سوقه ومسوقيه، فيصبح الناس يطبلون ويهزون رؤوسهم لكل قول يُرصَّف بما يُشبه الشعر ويُلحَّن بما يشبه الغناء.
إن أي بضاعة لا يُمكن أن تروج إلا إذا وجدت استحساناً عند فئة كبيرة من الناس، وإن أي سلعة لا يُمكن أن تُباع إلا إذا وافقت هوىً عند مشتريها، وإن (الفولة المسوسة) لا تقع إلا في يد كيالها الأعور، وإن أي أغنية هابطة لا يطرب لها إلا عديم الذائقة!.
وإلى أن تتحسن ذائقتنا فإن مثل هذه الرداءات لن تنفك تُصبُّ في أذاننا وتطرب لها أسماعنا وتنتعش بها قلوبنا!.