قراء فسانيا :
من وضائف الشعر ، ايا كان شعبيا أو فصيحا، الارتقاء بالذائقة الانسانية للفرد ، واستخدام الخيال في معالجة قضاياه، وطرح همومه ، ومحاولة فهم الواقع وتقديمه في صورة أدبية متفردة ، لها ضوابطها ، ومعاييرها المحددة ، ما عدا ذلك لن يكون الشعر سوى رص للكلمات .
وقد نقل إلينا من كلام الأولين قول أحدهم عن الشعر الشعبي : ( الشعر كلام غير الحذاق يساووه ) .
اما النقد فهو مهمة أخرى ترتبط بتقويم الشعر ، وتقييمه وفقا لمعايير واضحة محددة ، وليس من مهامه ، البحث عن هفوات الشاعر ، ومثالب النص ، وأخطاء الشاعر الذي لابد له من الخطأ لكونه انسان .
ولا يمكن بأي حال من الأحوال، أن يكون الشاعر ناقدا ، إلا فيما ندر ..
الشاعر ، شاعر .. والناقد، ناقد .. والمزج بين كلا الاختصاصين ، هو سبب للارتباك الذي يطال الأدب في كثير من الاحيان ، وهو الدافع الذي يدفع الجامع بين الاختصاصين الى البحث أو اللجؤ الى معايير أخرى غير موضوعية، وليست ذات جدوى في مجال تقييم وتقويم النص الأدبي.
وفيما عدا ، البرامج التلفزيونية، الباحثة عن نسب المشاهدة اكثر من اي شي اخر ، والتي لا ينتبه معدي برامجها الى الخيط الفاصل بين الشاعر والناقد ومهمة كل منهما ، فإنه يجدر بنا أن نطرح تساؤل مهم :
ما هي معايير النقد ، والتقويم ، في مجال الشعر الشعبي ؟ هل هي موضوع القصيدة ، واهميته ؟ ام هي الوزن والموسيقى ؟ أو هي التجديد في المعنى والمبنى ؟
يدور فى خلد كثير منا اسئلة كثيرة عن الطريقة التى يجب ان تكون عليها الاغنية ، وماهي شروطها ؟ وهل يجدر بكاتب الاغنية ان يحيط نفسه حين كتابة الاغنية بقواعد وشروط ام انه يترك لنفسه العنان بحيث تخرج الاغنية تعبيرا مباشرا عما يجول بخاطره .. هناك اسئلة اخرى تتعلق بقوة الكلمة التى يجب اختيارها ، هل على كاتب الاغنية ان يتخير اللفظ الاكثر سهولة والاكثر شيوعا ام انه يغرق ويترك الاغاني تأتى كما هي ؟ هذه الاسئلة اقتضتها طبيعة الاغنية التى قد تنتشر وتأخذ لها صدى ويرددها الجميع لكونها تأخذ فى اعتبارها كل ما سبق وقلناه . ولا اعتقد ان الاغنية المعقدة الالفاظ او الشديدة التعقيد فى المعاني ستجد اى نوع من الشيوع و الانتشار ، وكذا الحال بالنسبة للاغنية التى لا تأتي بالمعنى العام السهل المتداول بين عموم الناس ، وقد يقول قائل ان الكاتب وظيفته الاساسية هى الكتابة وليس شرح الاغنية وتسهيلها امام المستمع ، فقديما قيلت القصائد الشعبية وتم غنائها على ما فيها من كلمات سواء اكانت معقدة ام سهلة … قوية ام ضعيفة تؤدي المعنى ام لا .. ربما المقصود من كتابة الشعر او الاغنية قديما هو الوصول الى المفهوم العام الذي يتذوقه الجميع دون النضر الى تفاصيل الاغنية او جزئياتها ، وقد وجدت نصا للشاعر ( محمد اسرافيل ) على جمال بساطته وسهولة فهمه الا انه مستحيل الغناء ، فأذا غنى كان على سامعه ان يحضى بمفردات او قاموس شعبي لتحليل الاغنية رغم وجود مفهوم عام يلامسه المستمع له ، وهو لا يتناول موضوعا غريبا عن اى منا بل هو يدخل ضمن السياق العام لاغانينا ولشعرنا الشعبي انه يقول :
يالخايلة عايلها * انسيت لوعتك وانا خفا شايلها ** مغير فى الوسع
قايل قول * فى الظاهر ولكن فى الخفا مذبول
بياسك وموحك ريت ما من هول * وزامط الغصه بالعجر واكلها
هيالى انى بالعزم نصمل حول * ونشرب ارياقى ما نجيب عللها
لوعة قديم الصوب بومجدول * هضايب هضايب لا نقض حللها
ان زال وين ما يلفا يجى منتول * الماقى وتبقى ليلتى مطولها
وعندما نتحدث عن السهولة فى الفاظ الاغنية فأننا نقصد ان مدخلها وهو المطلع الذى يستقبله السامع ومنه يقرر اذا ما كان سيواصل الاستماع ام لا ، ولك ان تستمع :
انريد ننشدك ياعقل عن مسداها * زعم جافية والله تقيس غلاها
او قوله :
نا والخلا انتخالوا * خلونا اللى خلوا الدار وشالوا ** نخلاق نا ومن
او قوله :
ياللى عليك انرايف * عليك م العشم خايف وماني خايف * ع العين تنعمى
والامر كما قلناه سواء ، سواء ما كتبته المرأة من اغانى او ما سجله الرجل فى الشعر الغنائي ، غير ان الميزة فى اغنية المرأة والتى نرصدها دون عناء فى الاغنية الليبية هو كونها قصيرة ومعبرة .. ونادرا ما تجد اغنية قالتها او كتبتها المرأة وتمتاز بالطول فى ابياتها ، والسبب بسيط ، فالنسوة قديما بل وحتى وقت قريب كن يقمن بأستعمال الرحى والتى كانت من اهم ادوات المنزل لان الناس يعتمدون عليها كثيرا فى تأمين مأكلهم وكانت النسوة بعد ان يقمن بأستكمال اعمالهن اليومية يجلسن لطحن الحبوب ، ويبقين لمدة طويلة جالسات حولها ، لذلك كان لابد من الترنم والحديث مع الرحى وذلك لتخفيف عبء المجهود الكبير الذى يبذلنه ، فيمر الوقت دون ان يشعرن بالملل ، ومن هنا ظهرت واجادت النسوة غناوى الرحى ، فنجد المرأة وهى تتعامل مع نقل الرحى تشتكى حينا ، وتخاطب الغائب ، والام والحبيب والدنيا ، والكثير من الاغراض الاخرى كل حسب حياته .. ونسجل هنا احدى اشهر الاغاني الليبية التى تعود فى اصولها الى الشعر الشعبي وتحديدا ضمة القشة ، وهى قصيدة تم غنائها وانتشرت فى ثمانينات القرن الماضي ، انها قصيدة ( الغزال ) :
يا غزال لا تجارا * ان بانن عليك اوصاف سود انضارة * تعال ننشدك
يا غزال كيفك كيفه ** رقيق البشر مولا الشفاه رهيفة
امغير انت ما تعرف ولا تخريفه * وهى زوق والجايل تحيد جظارة
ومشية لها فوق الوطاه ضريفة * ودوبينها توطا لها انجرارة
اين كلمات هذه الاغنية من سماعنا لاغنية ( حبيب داني )
اللى شاغلني حبيب دانى * ديمة ساكن فى وجدانى ** قريب منى
وكان طول بيه المشوار ** ما ايخلى قلبي محتار
ايجيبه الشوق ويرجع ثاني * اللى شاغلني
وين ايجيني * يزها الخاطر يفرح بيه * ويهنيني
وينسني شقايا طول العمر عليه * وتزهى عيني
وكان طول بيه المشوار * مايخلى قلبي محتار
ايجيبه الشوق ويرجع ثاني ** ويرجع ثاني
عهده وافي * عمره ما يخالف ميعاد ** ولا يتغيير
قلبه صافي * علينا ما يحمل البعاد ** ديمة قريب
وكان طول بيه المشوار * مايخلى قلبي محتار
ايجيبه الشوق ويرجع ثاني ** ويرجع ثاني
على ان هناك عديد الاغاني التى شاعت لم يكن مصدر شيوعها سهولة اللفظ في الاغنية ، وانما جمال اختيار التعابير فيها فنحن حين نستمع الاغنية التى تقول كلماتها :
ما ريتوش تلقوها شهادة * سمح اللون درجاح القلادة
احتار فكرى * وحيره بجفاه * عقلي راح فى سباه
شاقى وراح ما ينساه
بوعين تشيل وقية * عمره ما ايهون عليا
سلمه * حبيبي ربي ايسلمه * ماحد بسو ايكلمه
لين ايجيني * اللى كاويني * اتشوفه عيني ** تزها معاه
ايضل عمرى فى ربيع مناي ** شغلي فى راحته وهناه
ديمة حذاه ** ما نخطاه
بوعين تشيل وقية * عمره ما ايهون عليا
تدرك ان جمال تعابير هذه الاغنية وتشطيرها الخارج عن المألوف ، هو سبب من اسباب اعجاب الناس بها وكذلك الحال بالنسبة لاغنية ( ليش انداري ) :
داريت ما اقدرتش * وليش انداري * ياللي هوايا زاد قايد ناري
ياريتكم داريتوا * نسيتوه حبي بعد ما حبيتوا
ليش شاقيين القلب وانتوا شقيتوا * والدمع منكم سال دار مجارى
ياريت نار غلاكم ** ايام طايلة ونحساب بيننساكم
وقلبي تهنى بعد ما خلاكم ** واليوم وده لغلاكم ساري
الشوق عاش معانا * قلبي امزيين ورد فوق اغصانه
كبرنا ازهينا ارضنا رويانا * وليش ذبلوا ازهاركم وازهاري
كثيرة هي المعاني التى يجدر بنا ان نتوقف عندها حين الحديث عن الاغنية الليبية وبحثنا المستمر في هذه المعاني .
دمتم طيبين ..