بقلم :: علي عقيل الحمروني
وهذا الإله التاريخي الذي تصوره الثقافة الدينية السائدة على أنه الإله الحق ، ليس هو – في نظر كاتبنا – الإله الغني الحميد المنـزّه عن النقائص والعيوب ، الذي ليس بحاجة – مثلاً- لأن يبعدنا عن جوهر مشاكلنا الوجودية الواقعية المعاشة ليشغلنا بمشاكل ما ورائية لا مصلحة واقعية أو عملية لنا فيها ، في حين يمكننا معرفتها أو مايشاكلها من خلال نظام حياتنا في هذه الدنيا ، كما أنه ليس بحاجة أبداً وهو الغني الحميد أن يجعل ربو بيته لنا ملكاً لغاياته الخفية أو تحقيقاً لمقاصده الجلية ، إنما يجعلها سبباً لما ينعم به علينا من النفع العميم والخير الوفير من غير أجر أو جزاء .
ولأنه الغني الحميد فإنه لا يطلب من عباده عملاً لا يحقق مصالحهم أو لا يقوّم أسس حياتهم ويدعّم مقومات أمنهم وطمأنينتهم وكرامتهم في الحياة الدنيا .
كما إنه الإله الرحمن الرحيم الذي يصرّف شؤون رعيته برحمة ظاهرة ولطف بالغ لا إرهاب فيه ولاعذاب لأجل خطأ أو غلط في حقه تعالى ، ولو كان فاحشاً ف حضرته وشأنه ، لأنه منـزّه عن الأحقاد مترفع عن إضمار الرزايا والشرور ثأراً لنفسه أو غيرة على هيبته وجنابه وهو الحكيم والغني الحميد الذي لا يوقع عقابه إلا كجزاء سيئة بمثلها لمن ظلم العباد وتجاوز الحقوق أو أفسد في الأرض بعد إصلاحها ، صيانة للحياة وإبطالاً لمخاطر الشرور ودعماً للخير والصلاح وحماية للكرامة الإنسانية وحفظاً لأمن البشر وسعادتهم حاضراً ومستقبلاً .
إذن ، فإن تأمل كاتبنا الراحل في الكمال الإلهي هو الذي قاده إلى الشعور بعمق الهوة واتساع الفجوة ما بين هذا الإله الذي انبثق من فضاءات التأمل ، وهو الإله الحق في نظره واعتقاده ، وبين ما رآه ” إلهاً عربياً ” جافاً قاسياً كأحجار الصحراء ، جباراً أنانياً لا يرحم كسلاطين الزمان أو فُتَّاك العرب الجفاة الغلاظ ، أو مدعياً انتهازياً يستغل الناس لمصالحه ومشاغله الخاصة لقاء الحكمة والأسرار الخفية التي لا تفيد أحداً ، تماماً كما يفعل حكماء العرب وعرافوهم وكهانهم .
ولقد اعتقد كاتبنا الفاضل بأن السلطة المعرفية والانفعالية التي تم تكريسها في العقل بشكل صميم لهذا التصور المشوّه والمختل عن الإله هي المسؤولة عن تحريك ريشة الثقافة العربية السائدة لترسم خريطة العلاقة بين الإله وعباده كما هي في الهيكل القديم والتقليدي لهذا الدين المتداول ، خريطة صفراء شعثاء ، لا حياة فيها لحسن أو جمال ، خالية من كل شيء سوى من خطوط سوداء قاتمة يمكن ترجمتها إلى معادلة شديدة الوضوح مفادها ( استعباد مطلق ، وقهر مطلق ، وغلبة مطلقة ، مقابل عبودية مطلقة ، وانقهار وانهزام مطلقين ) ، حيث لا مكان لعلاقة أخرى . إنها الأحادية الشاملة والكاملة والحاسمة التي لا تقبل التردد والمراوغة .
ومن الطبيعي أن يضمحل في مثل هذه العلاقة الأحادية ، أي وجود لثنائي مقابل يمكن اعتباره كياناً متسامحاً أو محترماً ، إذ لا قيمة ذاتية لهذا الكيان على الإطلاق .
وهذه العلاقة تكشف عن حقيقة محددة وهي أن الطرف الأول في هذه العلاقة يمتلك الحق كل الحق في أي شيء ، بينما الطرف الثاني الغائب في الأساس فليس له الحق في أي شيء ومن أي جهة !!
إنه منطق السلطان المطلق والهيمنة الطاغية التي لا تعذر ولا ترحم أبداً ، تماماً كما هي صحراء الربع الخالي التي كان يجوبها الأعرابي صانع الإله المزيف !!
وتلك تصورات شوهاء عن الإله الحق يرفضها الكاتب ، بل ويسائلها أيضاً ، فقدرة الله تعالى ، وسلطانه وهيمنته وجبروته ، مقرونة بالعدل والحكمة ، كما أن سطوته وقوته وعظمته مقرونة بالكرم والتجاوز والرحمة ، وليس كما هو الحال عند شيوخ القبائل وكهانها ، أو سلاطين بني العباس والأتراك وأمرائهم ، والذي توجه العقل العربي لصنع إلهه على نموذجها الميثولوجي والتاريخي .
ولذا ، فإن كاتبنا ينكرها ويرفضها ويسائلها ، ويرفض معها – بطبيعة الحال – امتدادها
يتبع