“نحن أبناء الشعراء، الذين أنجبونا عرضًا” …!!.

“نحن أبناء الشعراء، الذين أنجبونا عرضًا” …!!.

  • لوركا سبيتي

نحن أبناء الشعراء، الذين أنجبونا عرضًا، كما تُنجب القصيدة استعارة زائدة في بيتٍ مزدحم بالمجاز. وُلدنا في ظلّ قافية أطول من ظلّهم، في بيوت لم تكتمل لأنهم كانوا دائماً في طريقهم إلى أمسية، أو منفى، أو خيبة جديدة. كنا نقف عند العتبة ننتظرهم كما تنتظر القصيدة بيتها الأخير، لكنهم لا يعودون. يعود صوتهم فقط، وثرثراتهم العالقة بين ورقة وعشيقة وخمرة وأسطورة اسمها “أنا الشاعر”.

نحن ابناء الشعراء، علّمونا أن الشعر خلاص، ولم يقولوا ممن!!

اوهمونا بأن الأب الشاعر كائن مقدّس من صنف الغيوم يعيش فوق الأرض ولا ينتمي إليها. أقنعونا بأنهم آلهة، وفخر لنا اننا اولادهم نكبر في حضرتهم.. كبرنا واكتشفنا أنهم كانوا شياطين، تعرف كيف تُغوي بالكلمات وتُخفي تحتها الخراب. لم يكونوا آباءً، بل هم “الأنا”تدور حول أنفسهم، حول قلقهم، حول خيباتهم التي جعلوها ديانة يمارسون طقوسها باسم الابداع.

نحن ابناء الشعراء، عشنا طفولة مؤجلة، بين نوبات الولادة ونوبات الموت، بين قصيدة تتغاوى في الخارج وامرأة تبكي في المطبخ. لا يحق لنا ان نتمنى وماذا نتمنى اكثر من قصيدة ؟! وماذا نريد اكثر من أب مشغول بما هو أهم: المعنى، الوطن، الوجود..كل هذا صنع منا وجوداً بلا معنى. لم نكن أبناء بل ظلالاً، نمشي بين خيالهم المتورم ولغتهم الثقيلة ونتعثر بهما. اكتسبنا خيالاً مريضاً وقدرة على تبرير كل شيء — حتى الغياب، حتى القسوة، حتى الخيانة — لأنهم علّمونا أن كل خطيئة تُغفر إذا خدمت القصيدة.

لو كان آباؤنا تجاراً، أو نجارين، أو فلاحين، أو حدادين، أو أي مهنة أخرى، لكنا عشْنا حياةً طبيعية: الطاولة فيها من خشب وليست ثرثرة، الخبز خبزاً وليس استعارة، الحديقة سياجها حديدي وليس كناية. كان لنا عنوان ثابت، بيتٌ ننام فيه، مفاهيم واضحة، مبادئ نعرفها،  اهداف سامية، زواج عادي، وحياة لا يسيطر عليها مجدٌ لغوي أو هوس خيالي..

في التاريخ كثيرٌ منهم: شعراء حملوا القلم سلاحا في البيت فيما امتدت القصيدة حقل ورد للعالم، وتركوا أبناءهم على حافة العيش. من نيرودا الذي كتب عن الحب ولم يحب ابنته، إلى بايرون الذي أغوى العالم وترك ابنته لتكتب التاريخ وحدها، واخرين كانوا وما كانوا واخرين كانوا ويا ليتهم ما كانوا، كلهم اجتمعوا في صورة واحدة: شاعرٌ ينجب ثم يرحل، وشاعر ينجب فيأكل اولاده واخر يختفي تاركاً وراءه طفلاً يتيماً من الاعتراف،  وآخر لا يتذكر كيف انجب، ويعيش ونعيش كلنا حياة عبارة عن ردّة فعل على ما كتب،  نتحرك كثيرا و لا نعرف كيف نهدأ،نحفظ قاموس العاطفة

لكننا لا نجد مفهوماً واحداً للحب.

نحن ابناء الشعراء، كبرنا بلا جدران تقينا حر الاحتمالات ولا سقف يسترنا ولا مفاهيم نتشبث بها، نحمل حقيبة وننتقل من بيتٍ إلى بيتٍ، من وهمٍ إلى وهم، نحاول أن نبني حياةً لا تشبه قصائدهم. ومع ذلك، لا نستطيع الهروب من مرايانا من ذاكرتنا ومن ال DNA !

آباؤنا  يسكنون في لغتنا، في طريقة حديثنا، في علاقاتنا الناقصة بصفقون لأخطاءنا ويعتبروها قمة التخيل

ولأحزاننا على انها عادة انسانية نبيلة .

لن نغفر، حتى لو فهمنا اللعبة وحتى لو صرنا نحن الشعراء: لقد كتبوا القصائد للنجاة من أنفسهم ولم ينجوا، نحن سنكتب لننجو منهم ولن ننجو.

قصيدتنا ستكون عنهم ، عن الآباء الذين نسوا ابناءهم وحيدين في الغرف الوحيدة..

 الكتابة لا تبرّر الجريمة، حتى لو كانت مكتوبة بماء الذهب.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :