هند الزيادي
لستُ أدري إن كنتُ الوحيدة التي وقعت في فخ أحلام مستغانمي، ولكنني ، على كل حال أعترف أنّه٨ كان فخّا جميلا وقعت فيه بكلّ سرور، ترشّفت فيه كلماتها بلذّة ، كلمة ً كلمةً . الفخّ تنصبه لنا منذ أولى العتبات لما صرّحت بتماهيها مع هذا المخاطب المذكر “المجهول” أنتَ، ثم بحرصها على تحديد جنس كتابها بنسبته إلى “السيرة الرّوائية”. وسأحاول فيما يلي توضيح ملامح هذا الفخ .
لقد سارعتُ لشراء هذا الكتاب بلهفة ظنا منّي أنّه سيرة الكاتبة أحلام مستغانمي.مدفوعة باهتماماتي الأخيرة من ناحية بالسير الذاتية للكتّاب، بحكم تدريسي لها، ومدفوعة كذلك بالجانب التلصّصي فيّ، ذلك الجانب الذي لا يكاد أحد فينا يخلو منه ، وإن كان بمقادير متفاوتة بيننا.
تطرح هذه السيرة كما قلت منذ الغلاف إشكالية التجنيس لأنّ صاحبتها قدّمتها على أنها سيرتها الروائية، مما يعني أن أحلام مستغانمي هنا هي في معرض استعادة لتجربتها الذّاتية لكن بصياغة فنّية مخصوصة تتشكل حسب مقتضيات السرد والتخييل. ذلك أنها أعادت تشكيل مادة حياتها التي يفترض (كما يتطلّب الميثاق السيرذاتي ) أن تكون حقيقية بحسب “إكراهات السّرد” ، إن جاز التّعبير، فتخضعها لشروط تختلف عن شروط تكوّنها قبل أن تدرجها في سياق التشكيل الفنّي. وهكذا لم نعد نستطيع أن نتحدّث عن مطابقة تامة بين الوقائع التاريخية والوقائع الفنيّة المتّصلة بسيرة الكاتبة أو سيرة شخصيتها الرئيسة هنا في هذا الكتاب السّيري.
وأحسب أنّ احلام مستغانمي قد تعمدت اختيار هذا التجنيس لأنّه يعطيها مهربا جميلا كريما من مأزق البوح والتصريح والتقيّد، حسب اتفاقها مع القارئ، بالحقائق التاريخية التي ننتظرها منها، وهي التي عرفناها غيورة على خصوصيتها قليلة الظهور في البرامج.
العنوان كما قلت سابقا يضعنا أمام ثنائية تتماهى فيها “الساردة” مع ضمير مخاطب مذكّر نكتشف أنه والدها فتحدّثنا عن أثره في تشكّل شخصيتها وتحدثنا عن علاقتهما الجميلة المتفردة بين أب وابنته التي تعتز به إلى حدّ التوحّد معه. أمّا الفخّ الذي تحدّثت عنه في بداية هذه المراجعة البسيطة فهو مراوغتها لانتظاراتنا ومخاتلتها لنا. ذلك أننا نكتشف مع تقدمنا في القراءة أن مستغانمي تراوغنا بذكر بضعة تفاصيل صغيرة مبثوثة هنا وهناك عن حياتها: طفولتها، دراستها الثانوية، بعض من تجاربها العاطفية الأولى الساذجة سذاجة المراهقة(المعلم، زميل الإذاعة…) وتتاحشى الكثير مماعملت هي على إيقاظ فضولنا لمعرفته. فنظن بذلك أننا نقرأ سيرتها الذاتية بينما الحقيقة أنها تريدنا أن نقرأ سيرة والدها الذي تفتخر به أيما افتخار. سيرة المجاهد الذي وصل إلى الجنون نتيجة نقائه الثوري وإخلاصه لمبادئه. فترسم لنا صورة “مُرمنسة” عنه.
Une image romantisée
ولها في ذلك كل العذر والتفهّم لأن كل فتاة بأبيها معجبة وكل أب هو بطل إبنته وحب حياتها الأول والأخير.
ولا تتوقف مفاجآت هذه السيرة عند هذا الحدّ بل نكتشف حين نواصل “تقشير طبقاتها” أننا أمام محاكمة تتحاشى الكاتبة أن تكون صريحة وواضحة تجنّبا لما يمكن أن تفتح عليها من جبهات مع الجهات المعنية بالأمر. فأحلام مستغانمي وهي تستعرض سيرة والدها المناضل الثابت على مبادئه إلى حد الجنون تحاكم رفاقه ولا تسمّيهم، تكشف تلوّث نقائهم الثوري بانتهازية ثورية وجشع المناصب والمكاسب. فإذا بالجزائر الشهيدة تتحول إلى بقرة حلوب يطمع الثوار في لحمها وحليبها وجلدها وسقطها ويتقاسمون كعكة الاستقلال كأجشع ما يكون. وإذا بالثّورة تأكل أولادها في سيناريو تقليدي لكلّ الثورات التي شهدتها الانسانية. كل هذا بلغة تمزج بين الواقعية السلسة والشّعرية التي لا تكتب مستغانمي دونها. وهذا ما شكّل في نظري نقطة قوة وسقطة أدبية في ذات الوقت ، للعجب،. فأنت ، أيّها القارئ، وأنت تتابع الكلمات والجمل تكتشف أن أبسط الأفعال والأحداث يتحول عند أحلام مستغانمي إلى بستان دلالات تتفتّح فيه الصوّر كما الورود فتغمرنا برائحتها اللذيذة وجمال ألوانها وأشكالها. تتحول معها أبسط الدلالات إلى غابة استوائية مكتظة بالصور والمعاني. في بعض المواضع كنت أقرأ بمتعة تجعلني أرغب في احتضان الكاتبة وتقبيلها شكرا لها على جمال ما كتبت وشاعريته. لكنني طوال عملية القراءة كنت أراقُب ، في باحة عقلي الخلفيّة ، تنامي شعور خفيّ بالانزعاج وعدم الارتياح، لم أعرف سببه مع كل تلك المتعة التي شعرتُ بها. صبرتُ عليه وراقبته بصمت وأنا أحاول فهم حقيقته وأسبابه دون جدوى فعلية حتى شارفت على نهاية القراءة ففهمت أخيرا مصدره. كانت تلك الشاعرية التي كُتبت بها السيرة، تلك التي اعتبرتها مصدر جمالية لا محدودة لها هي نفسها التي صارت سقطة أدبيةهنا. فالشّعر رغم جماله واتحاده بوجداننا ورقة كلماته يتنافى في فردانيته وذاتيته مع الموضوعية التاريخية الصّارمة التي ننتظرها من السّير الذاتية ، وما يجب أن يحتفظ به التاريخ والذاكرة من وقائع وأحداث .
ولا أعتقد أنّ مستغانمي كانت غافلة عن هذا فهو في النهاية خيارها الواعي ، ولكنّ المرجّح عندي في هذه السيرة الروائية الجميلة أن الشّعر كان مهربها من برودة الحقائق وصدمة الصور الواقعية، وحزن المصير الذي لفّ هذا البطل التراجيدي الذي حارب طواحين الهواء واصطفّ إلى جانب الوطن و الثوار، فكانوا أوّل من وجه له نيرانهم بعد استقلال الجزائر.
وحده الشّعر يلطّف وقع تلك الكلمات الحادّة كنصل السيف. وحده الشعر قادر على أن يكون البلسم الذي يرطّب كل الجراح ويخفيها عن أعين المتلصّصين أمثالنا.
شكرا احلام مستغانمي أن أعدت لي الكاتبة التي أحببت قلمها في ذاكرة الجسد وفوضى الحواس