” تَنّوَه
مايشبه ترسب التجارب والمعرفة
سعاد سالم
فرنسا 2009
في صباح أحد أيام مهرجان الشعر 2009 بلوديف الفرنسية، لا أعرف ما الذي خطر ببالنا وقتها أنا وهنادي زرقة من سوريا، وكولالة نوري من العراق ،حين قررنا أن تتعرف كل منا على النشيد الوطني لبلد الأخرى، وهكذا تنحنحت حناجرنا على التوالي لتردد كل منا مطلع نشيد بلادها، ولأن النشيد الوطني العراقي الذي لم أعرف أنه كذلك قبل ذاك الصباح المشمس، كان أنشودة كل منا حفظتها لسبب ما غنيناه أنا وهنادي مع كولالة ،قبل أن نركض مع ضحكاتنا صوب بركة الماء، حيث سأغرق نصوصي أو أعلقها على الأشجار الزاهية. موطني موطني ، السناء والبهاء والهناء والرجاء في سيماك، الحياة والنجاة والهناء والرجاء في رُباك ، هل أراك سالما منعما وغانما مكرما ،هل أراك في علاك تبلغ السماك ،موطني موطني.
احكاية في النص
في السنة الأولى ثانوي في مدرسة علي سيالة للبنات، كنت ضمن كورال الفرقة الموسيقية للمدرسة إلتأمنا بقيادة أستاذ عادل مدرس مادة الكيمياء من مصر، وذلك لنشارك في حفل نهاية العام، تدربنا لأسابيع على انشودة موطني للشاعر الفلسطيني إبراهيم طوقان، وما أن بدأنا الأنشودة حتى تركنا أماكننا في منتصفها وجعلنا نركض فوق المسرح ضاحكات لاحقين بأستاذ عادل ،كان شابا لا يكبرنا كثيرا في العمر قفزنا معه كورالاً وعازفاتٍ من فوق المنصة فيما يردد : فيشلنا يا ولاد!
قف للنشيد
في الأول إعدادي وحتى الشهادة بمدرسة التقدم لم يكن للنشيد الوطني أي أثر في داخلي، ولم أهتم له إلا بمقدار دقائق انتباهي لتمارين الصباح لمعلمة الرياضة، نفرد الذراعين فيما تصرخ بكلمات مبهمة لم أفهمها يوما ولكنني انصياعا لأوامر أبلة زهرة بيزان المشرفة ساعتها والمتنقلة بعصاها بين صفوفنا في طابور الصباح تأمرنا: بصوت جهوري، أعلى ،فأقفل كلام معلمة الرياضة الممضوغ صارخة بدوري وبتشنج :حرّية ، تقول: همهمهمهم، فينفر عرق في جبهتي: قومية، أما النشيد يمكن أحتماله على مضض في دقائق عزفه عبر إذاعة المدرسة و بمناسبات عديدة بما فيها كل المناسبات الفنية والرياضية والدينية وأي افتتاح لأي شيء ، وهكذا!
الله أكبر يابلادي كبّري وخذي بناصية المغير ودمري، قولوا معي ، الله أكبر ، الله فوق المعتدي. ثم اكتشفت في عمر أكبر أنها أنشودة مصرية* حتى أنهم ينطقون الكلمات بالجيم المصرية في : ياهذه الدنيا أطلي واسمعي،جيش الأعادي جاء يبغي مصرعي، وفوق ذلك أنني حين سمعتها كأنشودة لفتت نظري استغاثة الكلمات وضراعتها، كيف يمكن أن يكون النشيد الوطني لبلاد ما اتكاليا، هل لاحظتم ذلك؟ نشيد وطني كلماته تصلح في مكالمة لمركز شرطة، تصلح لخائف!
وبالنظر إلى ظرف الكتابة ، بدا لي ذلك منطقيا، لقد كتبت كلماته في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 للشاعر المصري عبدالله شمس الدين. وكانت للناس في تلك الحرب كما لو أنها تميمة ، كما لو كانت صلاة.
ليبيا ليبيا ليبيا
بهذه الطريقة يكتب عنوان النشيد الوطني الليبي، فيما لو بحث أحدنا عنه ،وكأن الشاعر تخلى فجأة عن تصوره لعنوان، أم هذا الدارج مع الجدية في إلحاق النشيد بكلمة الوطنية، والتي تعني أنها توحد مشاعر شعب ما؟
يابلادي بدت لي مفردة ساحرة، أنا أنطقها وأتذوقها وأقولها، يا بلادي وكأنني أستعيدها، يابلادي وكأنني مرئي ولي صوت ،يابلادي وكأنني فجأة اكتشفت البلاد، فيما موسيقى محمد عبدالوهاب تعزز السلام و ملكِية البلاد، ولكن بعد قليل سأكتشف أيضا ، أن هناك بعض الأوهام تزدحم تحت ألحان الموسيقار ، وتخفف من سحر كلمات البشير العريبي، فكل شيء في النشيد فضفاض ، ليس هناك قصة نعيشها في النشيد كما هو حال النشيد الهولندي* أو الفرنسي،أو الأمريكي، كلمات ليس لها جذور ، لا شيء عمن نحن ، ولا كيف تم استقلالنا، ولا عن أسس وثيقات العهود، ولا عن احتمالات أن نخذلها بالعودة للقيود، لقد كان نشيدا جيدا يشبه، مسودة خطبة سياسية ، أو مشروعا بلا ميزانية.
تمسح عرق جهدك بكل حنان**
بدا أن النشيد الوطني هام ليس فقط على المستوى الرسمي ، بل وعلى المستوى الشعبي، فتتحول مدرجات الملاعب مثلا ، وهي الملاعب ،أثناء عزف النشيد إلى مايشبه ساحات تعبئة، ولطالما راقبت بفضول تلك الطقوس الخاصة بالنشيد والحماسة والتأثر الذي يلبس الوجوه، فلا أعرف إن كان الانفعال بها هو شعور تعززه الموسيقى وأجواء المنافسة، أم إن كلمات تلك الأناشيد مألوفه مثل وجوه الجيران ،أو مريحة كأثاث البيوت،وشمس الصباح في المطابخ ؟ أو ربما شاركوا في تأليفها؟ فالأناشيد الوطنية تعطيني في بعض الأحيان انطباعا بأنها موجودة كالأحافير، غير أنها في الواقع قد تكون أغنيات لها شعبية، تنتشر بين العامة،تحت ظروف خاصة تعيشها ، ما يجعلها تشبه سيرة شعبية وملحمة توحد الناس ،لأنها قصتهم وهمهم فيواسيهم غناؤها ، تماما كما ينسكب الغناء في الحقول البعيدة عوضا عن دموع المستعبدين، وكما يدفع الغناء فلايك الحواتة، و يرتقون به الشباك ،وكما تطحن الرحى الشعير و الشوق في بيت شعر لمولاة الرحى ، لدى وفي تصوري قبل أن يصبح النشيد وطنيا ، كان تعبيرا عن محاولة الابقاء على معنى للحياة في وسط الهزائم أو وطأة الظلم ،أوحتى التحديات اليومية.
لهذا سيطرت على تفكيري في السنوات الأخيرة فكرة أن يكون النشيد الوطني الليبي، أغنية عادية، أغنية خالية من الفخر ومن الماضي،ومن كل الالتهابات الوطنية المزمنة، وأن تكون أغنية جيدة تصلح لكل وقت ولاتستدعي أن نقف لها أو أن تكون عابسةأو رزينة ، فكتبت لنفسي بضعة اقتراحات ،مثل : بلدي وما بلدي سوى حقق الطيوب / ومواقع الأقدام للشمس اللعوب! حلوة الصورة/ لك ياانسان / لون اسمر وجبين عرقان! حتى أنني لا أمانع أن لايكون محليا فيضج الصباح الليبي هكذا: من يوم اللي تكّون ياوطني الموج كنّا سوى/ ليوم اللي بيعتق يا وطني الغيم رح نبقى سوى.
* (أقدم كلمات نشيد وطني في العالم كتب في 1572، واعتمد رسميا كنشيد وطني في 1932 )
** ( كلمات فرج المذبل/ألحان أحمد فكرون) حلوة الصورة