- عابد الفيتوري
لا أعرف لماذا اخترت هذا المكان . لكن على ما يبدو العزلة هي النعيم .. أجد نفسي لوحدي وقد احتفظت بأفكاري الشاردة في صدري لإبقائها جافة ، كي لا يطالها سيل جارف يبدد الحروف على الورق . لحظات من العزلة يفرضها ميل إلى التباين .. أحيانا أقرأ كتابا ، وفي أحايين أخرى أدون أفكارا عشوائية واقتباسات مفضلة ، وفي أوقات لا أفعل أي شيء على الإطلاق . أظل جالسا وأتطلع إلى البراح الممتد لساعات ، ولا أفكر في أي شيء يرنو إلى اكتشاف شيء عظيم عن الحياة .. أطفئ أي شمعة تحترق داخل جمجمتي .. ويغيب عني إدراك أي شيء فلسفي يغير وجهة نظري ، أو نظرتي إلى العالم. لا شيء على الإطلاق يأتي في هذه اللحظات ، وهذا هو بيت القصيد . إنها الأوقات التي أكون فيها هنا ببساطة ، وأواجه بهدوء كل ما يحدث أمامي .. أنا لا أفكر .. أنا لا أطرح الأسئلة .. أنا لا أخلق .. إذًا أنا موجود .. فترة راحة مؤقتة بعيدا عن السير عبر حقول الألغام . لم أكتب أي شيء .. بل لم أفكر في الكتابة على الإطلاق .. أمضيت وقتي في التسكع وتأمل الفضاء الرحب . لا أريد الذهاب إلى أي مكان آخر . لا أريد أن أفعل أي شيء .. لا أريد التحدث عن أي شيء بالتفصيل . لكن بغض النظر عن الظروف والالتزامات التي تأتي بدورها ، لدي اعتقاد أساسي بأن الناس في حاجة إلى الانكماش والانحسار والتمدد أحيانا أخرى ، تمامًا كما يحدث في حركة المد والجزر .. لدينا لحظات تشع بالطاقة ، وأخرى تحتاج للعزلة والكمون . كل شيء في الكون له نقيضه .. انحسار طاقاتنا ليس شيئًا غير عادي .. ولا عجب ، فنحن نعيش في عالم يؤرقه التوتر ، ويحترق بلظى نوبات القلق والاكتئاب. لهذا السبب تحاصرني كتل من غمام الكسل ، بدلاً من الشعور بالتفاؤل والحيوية ، وكأنني أتدحرج نحو زواريب الانهيار المريح . ومع توالي الأيام ونوبات التوتر والإحباط الوضيع ،أجدني وقد اخترت البقاء مختبئًا في غرفتي مع كتاب .. لماذا اخترت العودة إلى العالم ؟ الجواب هو أنني لا أريد أن أعود بدوام كامل .. لقد تغلبت على هذا الهراء الذي يبيعه لنا المجتمع ..إن الحياة أفضل إذا كنا نسير باستمرار نحو شيء ما ، وعلينا دفع أنفسنا بقوة أكبر . نظرت إلى كل شيء أحاول إنجازه خلال أسبوع معين على أمل العثور على حل .. عندما لا أشعر بالتفاؤل تكون طاقتي منخفضة ، ودائمًا ما أتراجع عن الأشياء المرتبطة بالأهداف طويلة الأجل .. وأميل إلى التكاسل . ليلة أمس أنهيت قراءة كتاب ، ثم جاءت الفكرة لكتابة مقال عنه . وتبادرت فكرتان عن الكتابة . قمت بتخليصها ووضع ملاحظاتي جانباً وذهبت للنوم . في الساعة الثالثة صباحًا ، استيقظت مع فكرة ، مرة أخرى ، أمسكت دفتر ملاحظاتي وقمت بتدوين بعض التعليقات كي لا أنسى بالعودة إلى النوم . اليوم أشعر أن ذهني يمتطي ركاب التدفق .. لكني مضطرٌ لإنهاء مقالتي هذه ، ليس بسبب انقطاع الكهرباء قبل قليل وقد بدأ الجو حارقا ، لكنّ أمرا آخر حدث ، ذلك أن ابنتي ” إيمان ” المدللة الصغيرة حضرت للتو .. جلست بجانبي .. قطعت خلوتي وقالت : ” ماذا تكتب يا بابا؟ ” .. توقفت حينها .. وأيقنت أنني الآن ، رغم ذلك ، أنا أتدفق .