- أحمد ناصر قرين
دعونا نشرب نخب إسرائيل, شقيقتنا اللقيطة .ونحتفل بذكرى عودة الملايين الى حضنها المقدس, الى أرض ميعادها, بعد قرون من التيه والشتات . ثم, بعد أن نصحو من سُكْرَتِـنا, نطارد الفكرة الشاردة, ألا يحق لنا أن نتساءل: ماذا لو لم تقم إسرائيل ؟
هل كانت الأمور ستختلف ؟ أكاد أجزم بنعم , بشيئ من الحذر..
هل سيجد قادة الانقلابات مبرراً كافياً, يستطيعون الإتكاء عليه للحصول على الشرعية اللازمة لحكمهم ؟
لقد حدثت هذه الانقلابات على موجتين : الأولى بعد عام 48 بداءً بانقلابات سوريا الثلاث عام 49 .الموجة الثانية بعد هزيمة عام 67 .وكانت مأساة فلسطين ونتائجها في صميم دوافع تلك الحركات الانقلابية .
سيكون لزاماً عليهم أن يبحثوا عن مبررات أخرى . ربما كان للتخلص من بقايا النظام الاجتماعي- المستمر منذ قرون, والذي كان يلفظ أنفاسه ويتهاوى في أرجاء العالم كله, بفعل تراكم التغيرات الفكرية, ونزعة الانسان المتأصلة الحراك الاجتماعي- والمتمثل في النظام الاقطاعي , دوره الدافع لهذه الانقلابات المحتملة .
ربما كان للتخلص من إرث الاستعمارالثقيل, دوره أيضاً .
سيكون ذلك أقل حدة, ربما الى حد بعيد .فهذا الجسم الغريب الذي زرع هنا, لابد أن يلقى مقاومة كبيرة, وستذهب أغلب الجهود لمواجهته .
(نحن بصدد أن نضع في هذه المنطقة من العالم برميل بارود, بل الأسوأ, سلسلة من القنابل الموقوتة لم يشهد التاريخ مثيلاً لها …دعونا نتخيل هذا , لكننا من يتحكم باشعال الفتيل ) هذا قاله اللورد غراي وزير خارجية بريطانيا سنة لمن معه سنة 1916,عند التوقيع على ما اتفق عليه سايكس وبيكو قبل عام تقريباً, وقبل عام على صدور وعد بلفور رسمياً .
بحنكة كيميائئين بارعين, عمل طاقم الادارة البريطانية بتعاقب الحكومات, على زراعة جسم غريب مستفز, في هذه المنطقة . وبحدس كيمييائن خبراء توقعوا النتائج : انفجاربمقدورهم التحكم به .
اسرائيل حضارياً تنتمي الى أوروبا, وما يربطها بالشرق الأوسط سوى ذكريات وأساطير .وحدتان حضارييتان متباينتان حد التناقض أحياناً .لابد للشرق أن يرفض هذا الجسم في صميمه, حتى وإن أضطر الى القبول به واقعاً, أكبر من قدراته.
هل كانت هذه الانقلابات, إن وقعت, ستنتهج نهجا ً أقل شراسةً. لا أشك أن هذا في حكم الواقع, ممكن ٌ وغير مستبعد . سيكون الانقلابيين أكثر أريحية ً وأقل قداسة ٍ, وأقل تخوينا ً للآخرين .
سيكونون أقرب ما يكون الى انقلابيي أمريكا اللاتينية .وسيكون اليهود السفارديم غير مضطرين لمغادرة أوطانهم أيضا ً. وهدين المعطيين كانا لهما أن يغيرا كثيراُ من نتائج المعادلة . فكان يمكن أن تؤدي الجامعة العربية, مثلاً, دورها الثقافي و حتى الاقتصادي على حساب الدور السياسي الأبرز الذي صار شغلها الأكبر . كان يمكن أن تتفاعل هذه الأدوار فيما بينها وتترافد لخلق واقع أفضل .بدل أن تكون كل الجهود خدمةً للدور السياسي وحده . الذي أستفرغ الادوار الأخرى, وأفرغها من محتواها ووظائفها .
هكذا التقت كل المصالح النافذة على زرع اسرائيل في الشرق الأوسط . تكفيراً عن سلسلة طويلة من الاضطهادات لليهود منذ قرون, من انجلترا وأسبانيا حتى روسيا, غسل بها الضمير الأوروبي ذاته من بعض الآثام .ومنع الوحدة الحضارية المجاورة والمنافسة, من محاولة اللحاق بها .
صار شغلنا الشاغل اسرائيل . احتللت تفكيرنا , قبل أن تحتل الأراضي . أفرز وعينا المرتبك, أنظمة وتنظيمات صادرت كل شيئ للمعركة .كانت اسرائيل تحدياً كبيراً وآنياً لنا, وجاءت استجاباتنا لهذا التحدي تشنجات وتخبطاً أهوج .كانت اسرائيل سؤالاً مـُلحّاً وجاءت إجاباتنا مبتسرة ً وفجة ً .
دول سرعان ما تحولت الى عصابات تسلب وتنهب,رسمياً وقانونياً, مقدرات شعوبها المادية والمعنوية والبشرية, وتتفنن باهدارها برعونة .لم يؤدي الحراك الاجتماعي إلا الى قلب القيم, وزيادة الأزمات . ولم يتمخض سوى عن نظام إدارة للدولة لا يختلف عن نظام المماليك, بل ربما أسوأ . عسكرتاريا مقدسة . حصرت القيادة في ذات زعيمها وعائلته وطائفته, تصلبت وأدخلت المجتمعات في جمود على كافة المستويات .فباسم الحرية صرنا عبيداً لفوضى مقدسة . وباسم النظام انزلقنا الى زنازين خيالاتنا المعتمة لا نجرؤ سوى أن نتوعد اسرائيل بالموت .
على الطرف الآخر, سرعان ما تحولت عصابات الهاجانا والأراغون الى دولة بنظام راسخ و مرن , قادر على فرز قيادات متعددة المشارب, متنافسة فيما بينها على تقديم أفضل أداء, ربيبة نظام إدارة أوروبي استوعب كافة التغييرات التي شهدتها القارة العجوز, طيلة قرون .
تهاوى نظام الإقطاع لدينا اسمياً, وظهربديلاً له , شكل آخر للإقطاع أشرس وأكثر قداسة وتغولاً, وأقل نبلا ً. إقطاع بأيديولوجيا اشتراكية ..جاء قادته والمنتفعون بهم من حثالات القاع, مسكونيين بحقد على الجميع, وتبؤوا الصدارة . فلنتخيل شخص كان مسؤولاً عن ثلاثين أو أربعين شخصا يصير, في يوم وليلة, مسؤولاً عن مصير ملايين, وعن توزيع العلاقات بينهم .
لا أدعي أن اسرائيل هي سبب مشاكلنا . لكن كان يمكن دون وجودها, أن نكون أقل توتراً في مواجهة مشاكلنا, الفقر والجهل والتخلف .كان يمكن ألا تهدر هذه الأجيال أعمارها وجهودها وهي بين خيارين: إما المواجهة التي تؤدي الى تدميرنا أو الاستسلام المخزي . ولم نتمكن من ايجاد تسوية تستجيب حتى للحد الأدنى من تطلعاتنا الكبرى .لم نتمكن من صياغة واقع أقل تشظياً مما صار.
لم تستطع الدول الوطنية صياغة هوية جامعة,داخل أقطارها. ولم ترسخ مفهوماًواضحاً لأساس المواطنة . فصار الفرز طائفياً عشائرياً قبلياً, بغطاء ايديولوجي غالباً, ربما كانت مصر شذوذاً عن القاعدة, في هذه الناحية فقط . وهذا ما مكنها من المحافظة على كيانها الواحد, دون الحاجة لتدخل خارجي, من أجل معالجة تناقضات داخلية (25 يناير) مثلا ً . وإن لم يعصمها من معاناة مظهر آخر مما أنتجته الانقلابات المقدسة, وهو ترييف الحواضر(اشتقاقا ًمن الريف) .فقد شهدت الحواضر الكبرى- القاهرة ودمشق وبغداد وحتى بيروت – عملية ترييف كبيرة . هذه الحواضر الكبرى استحالت ريفاً تحت قشوركثيفة من الأسمنت والأسفلت .ولم يعد لها شيء من تسامح المدن وتقبل الاختلافات, بعد أن عجزت أن تحافظ بالتالي على براءة الريف . فصار لها العكس تماماً: صراع المدن الشرس من أجل المعاش – صراع السوق- ممزوجاً بتفكير الريف الأحادي النمطي .
يمكن أن تعد الأسكندرية مثالاً جيداً للتجانس البشري المفقود , يونان وطليان ويهود ومسلمون وأرمن, أقباط وروم أرثوذوكس ولاتين .احتضن هذا التنوع أونجاريتي وكفافيس,وأنتج أزهي عصور الاسكندرية الحديثة ومصر كلها, في النصف الأول من القرن العشرين . ما يجوزأن نطلق عليه عصر سيد درويش ومدرسة أبولو وطه حسين . هذا العصر اقتاتت بنتاجه العسكرتاريا وأمتصت وهجه, وجيرت نتائجه لشرعنة ذاتها, فسرعان ما ذبل ولم يستطع مواصلة زخمه, ودخل في سبات واجترار.
جاءت ثورة 1919 في مصر مطلباً وطنياً بوجه الأحتلال البريطاني . ورغبة متأصلة بإعادة النظر في توزيع أكثر عدلاً لقوى المجتمع . كانت تنطوى في دواخلها الغير منظورة على حراك اجتماعي, يحركه بدء نشؤ طبقة متوسطة ذات وزن, تطلب مشاركتها الفعالة في حركية الحياة . لم توفق الثورة في تحقيق مطالبها المعلنة كاملةً . فقد عبر سعد زغلول عن يأسه, وطلب من صفية أن تغطيه . لكنها فتحت المجال أمام قطاعات واسعة من الشعب أن ترتقي بحياتها, كحق مشروع في طلب العدالة الاجتماعية . وسمحت لهم ارتياد مجالات كانت حكراً على فئة معينة . فقد استفاد, مثلاً, كثير من ضباط يوليو, الذين لم تكن تخولهم أصولهم سابقاً, امكانية ولوج الكلية الحربية, من الأوضاع المستجدة وحققوا أحلامهم بأن يصيروا ضباطاً في الجيش . لاحقاً ستعزز قوانين الاصلاح الزراعي الموقع الاجتماعي والوضع الاقتصادي لفئات كثيرة, كامتداد للحراك الاجتماعي الذي بدأ بثورة 1919 .
يحلو لي أحياناً أن أقارن التغيرات الاجتماعية هذه, بواقع ثقافي يتمثل في الفن الذي نجيده ونبرع فيه, فن الشعر, فأُشبه الأرستقراطية بالشعر العمودي, و البرجوازية بالتفعيلة , وقصيدة النثر بقوى الشعب العاملة … تبدو هذه المقارنة مجحفة ومتعسفة إذا نظرنا اليها بالإجمال . لكنها من احد جوانبها لا يمكنني إغفالها . وأعود للسؤال الأول :- ماذا لو لم تقم إسرائيل ؟ ……
لو لم تقم اسرائيل هل سيأتينا شاعر كمحمود درويش ؟ فقد فجرت مأساة فلسطين شاعرية محمود درويش و عمقتها وجلتها كأبهى ما يكون ؟ فهل كان سيبدو أقل ألقاً من الذي نعرفه ؟ وهل يجب علي أن أشكر اسرائيل على هذا, وأغنى مع الأشكناز (هافانا ناجيلا) ؟؟!