- عبدالرحمن جماعة
هل هي بداية النهاية للشعر الشعبي؟
أم هي فترة ركود مؤقتة؟!
لا ندري.. لكن الذي نعرفه أن الشعر الشعبي ومنذ عدَّة عقود يدور في نفس الفلك، ويقتات على ما سلف، ويلتف على نفسه، ويلتهم ذاته، دون أن يتطور أو يأتي بجديد!.
ما أقصده هنا هو من جهة المعنى لا المبنى، فالبناء الشكلي أقدر على الاستمرار طالما أن ثمة تطوير وتحديث على مستوى الصور الشعرية والخيال!.
قبل التدليل على ما سبق، لا بد أن نستثني تلك المحاولات من بعض الشعراء الشباب، ولو أنها لم ترتقِ لتُشكل نمطاً يُحتذى به، وإنما ظلت كبقع ضوء في ليل الشعر الشعبي، أو كرقاع جميلة في ثوبه البائد!.
يكمن جمال الشعر في ما يُحدثه من دهشة في نفس السامع أو القارئ، لكن تلك الدهشة لا تتكرر مع تكرار نفس المشهد أو الصورة!.
ولن أكون متجنياً إذا قلت بأن ثمة قصائد طويلة ولكنها مجرد صور منتزعة من قصائد سبقتها، الأمر الذي لا يمكن وصفه بأنه تناص، لأن التناص من وجهة نظري هو فعل لاواعي، ولا يمكن إتهام قائله بالسرقة، لأنه مما شاع حتى عمَّت به البلوى، وانتشر حتى صار عُرفاً!.
وإذا كان لا يُوصف بأنه تناص ولا (تلاص)، فما هو إذن؟!
إنه نمطٌ تواطأ عليه متاخري الشعراء، نظراً لسهولته وسرعة نظمه، وقربه من ذائقة العامة!.
ولكي أبرهن على هذا الادعاء دعوني أستحضر بعض الأمثلة، وبالقياس على هذه الأمثلة سوف تصطدم بهذه التكرار في أغلب ما تسمع من قصائد شعبية، وسوف يتضح لك أن ما أدعيه هنا لا يتعلق بحالات فردية متناثرة هنا أو هناك، بل هو ظاهرة وصلت إلى أقصى حدٍ من السماجة، وجعلت من الشعر الشعبي موهبة من لا موهبة له، والحمار القصير لكل من أراد أن (يتفرسن) في هذا الميدان، والباب المفتوح على درفتيه لكل من هبَّ ودبَّ!.
فعلى سبيل المثال؛ كم مرة سمعت: “وصف الريم هميل القارة“
وكم مرة سمعت “تذرف بالدمعة شتوالي” أو “غرغاز اصبية” أو “كحيل ارماقه”، أو “فايز عن جيله”، وكم مرة سمعت التشبيه بالفارس الذي رد الأبل من الغزاة، والتشبيه بالمفطوم، وتشبيه شَعر المرأة بسواد الليل، والتغزل بالوشم الذي لم يعد من مظاهر الجمال، وكذلك الشَعر الذي ارتوى بالدهن، وتشبيه عين المرأة بعين الصقر، مع أنني لا أدرى ما هو وجه الشبه، ولا أرى أي جمالٍ في عين الصقر!.
في أحد مهرجانات الشعر الشعبي، اعتلى المنصة شابٌ وألقى قصيدة، ومن جملة ما قال:
“عرب ما تاكل م الدكان.. ولا تلبس في نص الكم“
وكان يجلس بجانبي رجل كبير في السن يرتدي قميصاً نصف كم، فأخذ ينظر إلى ذراعيه السافرتين!.
وهذا مثال واضح على أن الشعر الشعبي لم يواكب التغير في المنظومة القيمية للمجتمع!.
وهنا لا أتحدث عن أوائل وكبار الشعراء أمثال الجنجان، وعبد المطلب الجماعي، والغناي اغنية، وخالد ارميلة، وارحومة بن مصطفى، وغيرهم، فهؤلاء هم فحول الشعراء وأقدمهم في مدونة الشعر الشعبي، وإنما أتحدث عن الشعراء الجدد، على الأقل في العقود الأربعة الماضية!.
إن كلمة إبداع تعني: “الخلق على غير مثال سابق”، فأين هو الإبداع في بناء شكلي متراصف انتزعته طوبة طوبة من هنا وهناك لتُعيد تشكيله وبناءه مع طلائه بإلإلقاء الجميل، وتزويقه بالنبرة الحماسية، وسط تصفيق لجمهور لا يتذوق الشعر!.
إن الشعر الشعبي إذا لم يكسر هذه الحلقة من الجمود، وإذا لم يتخلَّ عن مسار حمار الرحى، وإذا لم ينطلق في فضاء أكثر رحابة، وإذا لم يُواكب عصره، فإن هذا هو إيذان صريح بموته وانقراضه، وعلامة واضحة على قرب أفول نجمه، واندثار رسمه!.
إن شيخوخة الشعر الشعبي قد لا تدوم طويلاً، وما بعد الشيخوخة إلا الموت أو الميلاد بجسد جديد وروح جديدة، وحتى إن دامت شيخوخته لعدة عقود قادمة، فهي ديمومة غير فاعلة وغير مجدية، تماماً كبقاء شيخٍ هرم على هامش الحياة، بلا جدوى ولا فاعلية ولا نشاط ولا حيوية، الفارق الوحيد أن الشيخ الهرم قد يفيدك بحكمته، أما الشعر الشعبي فالشيخوخة أصابته من هذه الجهة!.