الرجل الذي فقد الأرض من تحت قدميه ..؟!!

الرجل الذي فقد الأرض من تحت قدميه ..؟!!

كتب :: د :: سعد الأريل 

عندما تغيب عنك الأحلام .. ينقطع اتصالك بالوجود .. حياتنا حلم بكل الأبعاد .. وبدون أحلام نظل غارقين في دهاليز اللاوجود .. فالحياة تظل صحراء قاحلة عندما يرفع عنها الحلم وكلما ابتعدت عنك الأحلام كلما تلاشى الوجود من حولك رويداً رويداً .. كان يقول لنفسه إن الوطن مجرد حلم .. وليس ببقعة جغرافية من مكان .. فالحيز المكاني لا صوت له .. إنه مجرد أرض وسماء .. إنه طبيعة صامتة هكذا كان يرى ذلك الرجل الذي قدم إلى ليبيا مع جيوش المحور ( الألمان ) عندما هزمت بلاده في الحرب العالمية الثانية .. كان من بين الأسرى الألمان الذين زج بهم في ثكنة ( توريللى ) بمدينة ( بنغازي ) أثناء انتهاء الحرب بانتصار جيوش الحلفاء على ألمانيا .. كان هؤلاء الألمان الأسرى لا يلوون على شيء سوى التسكع في شوارع المدينة .. كنا نرقبهم وهم يمتطون تلك الدراجات النارية وهم يسابقون الريح .. كانوا يريدون أن يقولوا لنا : إننا هنا موجودون .. لقد قتلت فيهم الحرب الشعور بالوطن .. كنت تراهم وهم يتحركون في حركات بهلوانية بتلك الدراجات النارية ..كنا كسكان المدينة ذوي إعجاب كبير بهؤلاء الرجال وكنا نقول لأنفسنا .. لماذا هزم هؤلاء الرجال ؟ كانت تلك الحركات البهلوانية الاستعراضية يريدون منها أن يطردوا اليأس من قلوبهم التي تحطمت من جراء الهزيمة .. أحد هؤلاء الألمان شعر أنه لم يعد له وطنً .. لقد فضل الإقامة في المدنية وأن لا يعود إلى بلده ( ألمانيا ) .. لقد قرر أن يشعل النار في مراكب العودة على مرفأ مدينة ( بنغازي ) .. فكل السفن التي أتت به من الشمال لم تعد تقوى على العودة مرة ثانية لقد تحطم شراع العودة لديه بشكل مطلق على الشاطئ .. وخاصة بعد سماعه نبأ الكارثة ( الهولوكوست ) على مدينة ( درسدين ) التي هجر إليها أهلها خوفاً من ضربات الحلفاء وأبيدت تلك المدينة بكامل أهلها من قبل الطيران البريطاني والأمريكي فلقد سقطت عليها تلك القناديل بواقع قنبلة لكل شخصين .. كثير من الأسر ذهبت في ليلة واحدة ووصل حجم الخسائر كما تدليها بيانات الحرب أكثر من 600 ألف شخص ألماني مدني .. كانت تلك الأنباء ترد إليه .. كان الرجل يهيم هنا وهناك ودون هدف يحمله في رأسه وكان الشعور لديه أنه لم يعد له أمل في أن الكون .. فالوطن لم يعد له وجود سوى على الخارطة .. كان يشير بأصبعه إلى الخارطة ويقول : إن ( ألمانيا ) هناك ولكن بلا روح !! فلم يعد لألمانيا سوى الاسم .. ذلك الاسم الذي رسم على الخارطة بدون حراك .. كان عند كل غروب يستلقي على ذلك الشاطئ المحاذي لثكنته في ( توريللى ) وكان نظره يذهب بعيداً ليغوص في الأفق البعيد .. كان يشير بإصبعه إلى ذلك الأفق ليقول .. إن بلاده وراء ذلك الأفق البعيد .. وما هي إلا لحظات حتى يسود الظلام الدامس نطاق المكان .. كانت أفكاره تسبح بعيداً وتحلق في أجواء الذكريات كان يتراءى له تلك الجموع وهي تندفع في زرافات ملوحة على جوانب الطرق وعلى أسطح المنازل في شوارع ( برلين ) وكانت ترفرف على الساحات وأسطح المنازل تلك الرايات ( البسماركية ) بألوانها الثلاثة .. يتوسطها صليب معكوف .. كان قد شعر بأن كل ألمانيا قد صلبت عليه بعد الهزيمة .. لعل اليوم قد سادت شوارعها موجة الغربة فلم يعد يسمع بين جوانبها تلك الأناشيد الحماسية التي كانت تشنف الآذان .. ولا تلك الأخبار التي تذاع في الإذاعات المسموعة حول انتصارات ( ألمانيا ) ساد السكون المطبق شوارع ( برلين ) .. وأصبحت ( ألمانيا ) بلا روح .. لقد كانت النشوة تملأ صدره عندما كان يلتقط الأخبار السارة لديه بأن جيوش ( ألمانيا ) تدق أسوار ( موسكو ) وتزحف نحو شوارع ( الشانزليه ) وتجتاح أكثر من ثلاثة أرباع ( أوروبا ) . لم يعد لتلك الانتصارات سوى الصدى .. ولم يكن يخطر بباله أن ( ألمانيا ) هزمت ..!! كان يشعر بأن تاريخ ( ألمانيا ) هو تاريخه الذاتي .. كان الوطن لديه تطلعا نحو الحلم .. ولقد ذهبت تلك الحروب اللعينة بكل تلك الأحلام .. لم يعد باق له شيء .. أسرته ذهبت بها قنابل الحلفاء .. والوطن ظل بلا روح ..!! لقد أصبحت تلك الثكنة وطن الغربة لديه .. لقد اندس ما بين السكان المحليين لا يلوي على شيء .. فهو لم يعد قادراً على الرجوع إلى بلاده .. كان يشعر بعدم الانتماء إلى هؤلاء الناس لقد شعر بأنه كتلة من اللحم والدم تحمله هنا وهناك .. إنه لا ينتمي إلى هؤلاء القوم عرقاً ولا حساً .. كان يرى أن العيش في كنف هؤلاء السكان يبقيه العيش بعيداً عن أطلال الذكرى في وطنه .. كان الوطن لديه ليس ( ألمانيا ) كسماء وأرض بل سلة من الآمال و الأماني .. لقد ذهبت تلك الانتصارات وأصبحت جزءاً من التاريخ .. كان يشعر بأن تاريخ ( ألمانيا ) هو السيرة الذاتية له .. كان وجودا لذات تقطع نحو الحلم .. لم تبق حجراً ولا بشراً في بلاده .. لقد وردت إليه الأخبار بأن أسرته هلكت .. نعم لم يعد له شيء في بلاده .. كان وهو ملقي على الشاطئ يشعر بدوامة ذكريات مريرة تطبق على رأسه .. أحس بأن رأسه على قرب من الانفجار عندما تتلاصق تلك الذكريات .. كانت لديه أسرة يشعر بالأمان والعطف في كنفها .. كان الوطن لديه طموحاً وآمالاً .. لقد ذهب كل ذلك .. ولم يعد له سوى تلك الحجرة في تلك الثكنة ..لقد أصبحت تلك الثكنة وطن الغربة له .. لقد اندس بين سكان المدينة ولم يعد قادراً على الرجوع لبلاده .. لم يشعر بأي انتماء لهؤلاء الناس .. لقد تحول إلى جسد بين أجساد أخرى تتحرك في فضاء واسع .. فهو لا ينتمي إليهم لا عرقاً أو حساً .. إنه بتفضيله البقاء في مدينة ( بنغازي ) أراد أن يغطس الغربة بكل جوانحه .. فسيان عنده الآن البقاء في وطنه ليبقى بين الأطلال ويذكر كل شيء .. أو العيش بين هؤلاء الناس الغرباء عنه ولعله يجد في الأخيرة أنه كان يريد المكوث بين هؤلاء ليحصل على شيء من العزاء .. لقد تحول وطنه في ذاته إلى مجرد أطلال بكل الأبعاد النفسية والحسية.. لقد انتزعت المواطنة من فؤاده .. لقد أصبح مجرد شيء تنوء به الرزايا وتقذفه في دروب المدينة لا يلوي على شيء .. كان كلما شعر بالضيق حيط به يذرع تلك الشوارع جيئة وذهاباً .. كان ينعت نفسه بتلك التورية من التشرد لدى البنغازيين بأنه مثل كلاب السبخة التي لم يعد لها مأوى سوى التسكع ما بين سبخات المدينة ..كان يشعر بأن الوطن ليس جدراناً أو مبان بل هو أنفاس وأرواح .. في الغربة أيضاً بنى لنفسه موطناً من البؤس في أن لا يكون ألمانياً .. لقد انتزعت ذاته وعاش وسط الغربة .. لقد شعر بأن ثوب الغربة يضيق عليه يوماً بعد يوم حتى يطبق على أنفاسه فالوطن ليس العيش بين الآخرين بالخبز والماء بل هو شعورات حية لتحقيق ذاته .. حتى ولو فكر في الرجوع إلى وطنه فسوف يعيش في الغربة أيضاً .. لقد أصبحت الأمور لديه سيان أن يكون ألمانيا أو مهاجراً .. ظل الرجل في دوامة الغربة لا يلوي على شيء سوى أنه يقتل نفسه بالعمل طوال النهار ليخلد إلى النوم باكراً .. كان يرى في النوم هو الخلاص الذي يغسل الروح من كل الأدران التي علقت بها .. في أحد الأيام شعر بدوامة كبيرة أفقدته توازنه .. وشعر بأن الأرض تميد من تحت قدميه .. سقط مغشياً عليه .. وهرع إليه المارة . كانت تنظر إليه بعيون غير مكترثة .. أحس بعنف الغربة يسري في كل جسده .. وكان يردد كلماته الأخيرة الوطن ليس تراباً .. بل هو كينونة .. كانت تلك آخر الكلمات التي لفظ بها الرجل وهو يودع الدنيا .. وما هي إلا هنيهة حتى غاب الرجل عن الوجود .. لقد مات الرجل غريباً .. لم يحفل بموته أحد ودفن وسط مقابر المدينة .. ولم يوضع على شاهده سوى رقم ..!! .

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :