نورا اعبيد
لأبي خصال عديدة، أقلّها أنّه يتقن المحاورة. والمحاورة عند أبي فنّ. يتصيّد لها المقام ويجتهد في ابتداع أسباب نجاحها.
عاد يوما من المقهى سعيدا جدّا. وأدركت ذلك من مشيته وطريقة مناداته لي “نوووره”. دفعت بالكتاب الذي كان بين يدي، ولبّيت نداءه كما يلبّي المستجيب من دعا. ضحك في وجهي – رحمة الله عليه – وسبقني إلى “الكوجينه” (المطبخ). فاتّبعته دون استفسار. جلس على أوّل كرسيّ اعترضه.
وفي نشوة طلب منّي أن أعدّ قهوة – ولأوّل مرّة يطلب منّي أبي قهوة-. وقفت أمام آلة الطبخ. والحق بدأت الحيرة تشبّ في خاطري. ولطرد تلك الحيرة تظاهرت بسعادة فائقة.. والأهم لماذا يطلب ابي قهوة بعد عودته من المقهى؟ لا يهمّ! بحثت عن الجزوة.. أخرجت الفنجان من الخزانة.. بحثت عن “البيركيه” (الولاعة). فأنا لست سيدة المطبخ.. ولا أعرف تفاصيل تجعل علاقتي بالمطبخ بديهيّة ومحبّبة.
بدت حركتي بطيئة. فأضجر بطئي والدي. كنت مهتمة بالجزوة والفنجان والقهوة والسكر والبيركيه ووجه أبي.. مسكت الولاعة. وأدرت زر الموقد الصغير.. ضغطت مرّة واثنين وثلاثة حتّى انتشرت رائحة الغاز العطنة ولم يشتعل.. تكاد حرارة يدي ووجهي تشعل رأس الموقد الصغير، لكن دون جدوى.. غرست رأسي في الموقد ولم ألتفت لأبي.. سمعته يقول:” خرّف.. ما شعلتش ڨاز وأنا باش نحكيها على خطيب!”
حينها التفت إليه. فلم أر إلاّ المقعد فارغا… ضحكت كثيرا او شديدا.. وأحببت البيركيه التي أنقذتني من هكذا حوار مع أبي.. ففي قلبي نار لا تحتاج غير اسمه لتشبّ وتعيد.