ايام في الجندية – 2

ايام في الجندية – 2

بقلم :: عابد الفيتوري

الطلبة الذين اختاروا الالتحاق بالكلية العسكرية بوازع رغبة ، كانوا الأكثر انضباط بيننا ، التزام تام بالأعراف العسكرية .. في المساء ، تراهم منهمكين في ترتيب إغراضهم العسكرية استعداد لليوم التالي .. يدلك الحذاء بالفرشاة ، يطليه بمعجون ” البويه ” التلميع الأسود .. لينتقل إلى مرحلة النفخ بالآهات على سطح الحذاء .. وإعادة تدليكه بقطعة قماش لينة الملمس ” كهنه ” ، معدة للغرض .. على رأي عريف الفصيل : ” نبي نشوف وجهي في الحذاء ” .. لمعان واجهة الحذاء ، كالمرآة .. هذه هي العسكرية .. ولحرصهم المتزايد والمتنامي بحكم الولع بوظيفة ضابط بالجيش .. تزين اكتافه حلة نجوم ونسور .. ونياشين على الصدر .. قلما يعاقب احدهم في مواجهة التفتيش الصباحي .. أسرتهم هي الأخرى تجدها مرتبة بعناية فائقة كما ينبغي .. البطانية كمسطرة تقسم الثلث الأعلى للفراش .. الملاية مشدودة .. الوسادة موتورة الأطراف .. التجهيزات ” الفشلك في تربيعته ، اشبه بصندوق من فولاد ، قائم الأطراف .. مهذب .. الصديق عبدالله مسعود كان من بينهم ، وقد أصبح فيما بعد آمر لكتيبة أمنية برتبة عالية ، ومن المقربين .
عمي سعد محمد .. رئيس عرفاء وحده عتيق ، كان من بين متدربي عسكر سوسة نواة تأسيس الجيش الليبي ، آمر أساس التدريب طوال الوقت ، طالما لا وجود لأحد من الضباط .. يحلو له الإقامة بالمعسكر منذ أمد طويل ، قلما يذهب إلى منزله .. يقدم التمام للضباط بعد الجمع الصباحي ، وينفرد بنا مع نهاية الدوام .. الوقوف للاستماع إلى نشرة الأوامر اليومية ضرورة قبل الانصراف .. أحيانا يتأخر إعدادها .. الساعة الثانية والنصف ، الشمس عمودية حارقة ، الأرض إسفلت ينفث صهدا .. يقف ريس عرفاء الوحدة بتأني .. مستمتعا بتململنا .. وبالتمهل في قراءة الأوامر وإعطاء إذن الانصراف .. وكنا نستشعر الوقت يمر بالثواني ، وحال ما نسمع كلمة ” تفرق ” يهرع الجميع إلى اقرب ظل ، وان كان ظل خيمة في هجير فزان .. التقيت عمي سعد فيما بعد ، وقد ترك الخدمة العسكرية ، ولا يزال على طبعه العسكري الذي ندر حياته له .. صارم .. وطيب القلب .
الأيام الأخيرة .. لم يبقى أمامنا سوى ، مشروع تعبوي بالميدان ، الرماية بالذخيرة الحية ، والمسير الليلي باستخدام ” الحك ” .. الجهاز الدال على الاتجاه .. ولمسافة 12 كم .. تتغير اتجاهات السير من الغرب إلى الشرق إلى الجنوب .. يوم مرهق لا كما الأيام .. المسافة طويلة ، وتضاريس الأرض مربكة للسير .. وفي مشروع الرماية الحية أخدنا يوما كاملا .. 75 اطلاقة ، 30 بندقية اف ان ، مسدس ، غداره بريتا .. عدنا آخر النهار ، اوآن الغروب بعد ان قضينا يوما قائظ ببراح الصحراء .
يوم التدريب التعبوي بالميدان ، نقلنا سيرا على الأقدام لمسافة تزيد عن 5 كم متر .. خلف ارض المطار .. وحضر الضباط المشرفين ، ارتدينا كافة التجهيزات ، ” الفشلك بالكامل ” .. جعب حفظ وتبديل مخازن العتاد ، منحنا عتاد من نوع ” خلب ” .. صوتي فقط .. ومثلنا للهجوم والالتفاف على العدو القابع أسفل العليقة ، وعلى يسار التبة الحمراء .. هرج ومرج وغبار يتعالى ، صرخات الطلاب .. تقدم .. تقدم .. وكأنهم وجدوا في الأمر تسلية تخفف الوجع والأرق .. بل أن زميلنا حسن أراد ان يضيف للأمر نكهة ، فوضع قطعة حصبة صغيرة ، حجرية صماء ، أعلى فوهة السيبطانة ، فوهة البندقية .. وهو الجزء المفقود للاطلاقة الخلب .. رأس الرصاصة .. وعندما ضغط الزناد ، واشتعل البارود ، وتدفق الغاز عينه إلى السيبطانة .. تحولت قطعة الحصبة إلى رصاصة قاتلة .. وأصابت احد زملائنا بفخذه .. كانت إصابة بالغة غير متوقعة .. تعافى منها .
اقيم حفل ختامي بمناسبة التخرج وانتهاء مدة التدريب .. احيته فنانة موريتانية جميلة ، قوامها ، طلتها ، صوتها البدوي الذي يناغي شيء من نفس اهل الصحراء .. وهام الجميع بالساحة على شدى الحان الربابة والرقصة الموريتانية .. اسمها خديجة .. تعالت الانغام ، وازداد وهج الشطح بالميدان ، وفي ليل فزان تزهو الالحان .. ويتأجج بركان الوجد والوله والافتتان ، .. تحسر الجميع باعلان نهاية السهرة الجميلة .. وبغياب خديجة عن المحيط .. في طريق العودة ، اعتدنا نؤلف نكاتنا ، نقلد بعض المعلمين ، ضباط صف ، ضباط .. احد الضباط الكبار والمشرف على الحفل في عادته عندما يقف امام الفصيل .. يتحدث بأنفة متعالية ، ويستهوي انزال العقاب بنا والاحالة على التعليم الاضافي ، ودائما له عبارته المعهودة : ” الرقم كذا ، والرقم كذا ، ثابت .. الباقي خارج ” .. خارج ، اى تفرق وانصراف ، اما من طلب منهم الثبات في مكانهم ، فتم امر جلل ينتظرهم ، ينتهي الى انزال العقوبة الجاهزة ” تعليم اضافي ” .. تعذيب وتذنيب او الوقوف بالساحة في حالة استعداد لساعات .. قال احد الزملاء معبرا عن امتعاضه من الاوامر بإنهاء الحفل والسمر .. اتخيل ان هذا الضابط المشرف على الحفل ، والذي لا يعرف سوى ” ثابت .. والباقي خارج ” .. قد شطح به الوجد الليلة .. فأصدر اوامره العتيدة .. ” خديجة ثابت .. الباقي خارج ” .. ونحن من شملهم امر الانصراف هذه المرة على غير العادة .. وظل المثل نتقاذفه بمناسبة وغير مناسبة ” خديجة ثابت .. الباقي خارج “.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :