تشكيل الوجع

تشكيل الوجع

بقلم :: الراحل السفير والشاعر الليبي محمد الفقيه صالح 

لم يشأ الفنان “معتوق أبو راوي ” أن يبقى بمنآى عن الزلزال الذي هز عدداً من الدول العربية ومنها بلاده ليبيا، فيما عرف “بثورات الربيع العربي”. تعمد أن يسجل بريشة الفنان شهادته الانطباعية والتعبيرية عن هذا الحدث التاريخي، وأن يقول باللون والتكوين ما لا سبيل إلى قوله بالكلمات.

تبدو كائنات أبوراوي والأجواء المحيطة بها في هذه الرسومات كما لو كانت مرمية في كوكب قاحل موحش، أو منبثقة منه. شخوصه المرسومة فيها تطل علينا أو نتلامحها مطموسة الوجوه، وهي غالبا ما تكون مسجاة، وكأن كلا منها ميت أو في حكم الميت. وبعضها مشدود إلى أعمدة ثابتة، وكأنها مصلوبة، أو في انتظار تنفيذ الإعدام. جسوم قوامها الأسود، الذي هو عادة لون الحداد، ويحيط بها في الغالب اللون الرمادي الكامد، أي لون الحزن والكآبة. ليس ذلك فحسب، بل ثمة أيضا اللون الأحمر، الذي يلطخ قسما من فضاء اللوحة، بقسوة وفظاظة، تعبيرا عن فجيعة الدم المهدور. أما الثور الوحشي المندفع فيحضر، في بعض الرسوم، دلالة على انفلات العنف الأعمى، وهجوم الغرائز البدائية الهمجية.

الرؤية التي تنطوي عليها هذه الرسوم إذن لا تشي بفرح أو غبطة، بل هي أدنى إلى الرؤية الكابوسية. تقدم انطباعا عن اللحظة الراهنة، ولا تتجاسر على استشراف أفق مضيء. كأنها تنتظر ما سوف ينشق عنه الغد. حزينة دامية هي. يشوبها قلق ووجوم قاتم قاس. واضح أنها جاءت بعد أن انتهت السكرة واستيقظت الفكرة، أي أنها لم تنصرف إلى رصد حماسة الخروج على السلطة الدكتاتورية الغاشمة وفرحة الانتصار عليها، بل آثرت أن ترصد البرهة التالية، برهة ما بعد الحماس والتهليل، برهة الذات التي تجد نفسها عارية في مهب المصائر، بعد أن احتلت الجروح والندوب والدمامل معظم مساحات الجسد.

اختار الفنان إذن أن يرصد وجع التحول ونزيفه. انحاز إلى الألم لا إلى الحلم. فضل أن يتنكب مواكب الهاتفين المهللين، وأن يلتفت إلى المطعونين والمغدورين والحزانى. ليكن السبب الباعث على هذا الحزن والوجع ما يكون، أثراً جانبياً سلبياً للثورة نفسها، التي لا تلبث أن تأكل أبناءها، أم تمظهرا للثورة المضادة، التي تسعى إلى اغتيال الفرح في حياة البسطاء، وبث روح اليأس والإحباط في نفوسهم.

أياًيكن الأمر، فهذه الشهادة التشكيلية المعبرة تدعونا إلى أن نقف حيال أنفسنا، وحيال ما يجري أمامنا، بصدق وتجرد وشفافية، ودون أية أوهام أو تعلات. وفي كل الأحوال، علينا دائماً أن ننصت بعمق لرهافة وجدانات الفنانين، وفيض مشاعرهم النبيلة الصادقة، فهم حراس الحياة والحقيقة والحرية، وعلينا ألا ننسى أبدا أنهم شركاء فاعلون في المرحلة، وشهود عليها، في الآن نفسه.

2014 مدريد

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :