- المهدي يوسف كاجيجي
فى الخمسينات من القرن الماضي، وفى مدينة سبها عاصمة ولاية فزان، لم نكن نعرف الكهرباء، كنا نستخدم حطب جريد النخيل في الطهي والتدفئة، والجاز “الكيروسين” في الإضاءة. أتذكر أن بائعي الحطب، كن من الفتيات الافريقيات القادمات من بلدان الجوار الأفريقي، كن يحملن بضاعتهن على حمار، وينادين بلغة عربية وبلهجة افريقية ” تبو الهطب.. تبو الهطب “. أتذكر أن ربطة الحطب كانت تساوي وقتها خمسة قروش.
تطور الأمر وأدخلت الكهرباء بواسطة مولّد صغير، يضيء عددا محدودا من المصابيح الكهربائية “لمبات” التي تم توصيلها لعدد محدود من بيوت كبار المسئولين في الولاية، وكان بيتنا محظوظا، على اعتبار أن والدي كان يعمل إماماً لمسجد الولاية، وكان بيتنا ملاصقًا لبيت الوالي، فحصلنا على لمبة واحدة، تم تعليقها في وسط الحوش. كان المولد عند تشغيله يصدر صوتا “تكتكة” تخترق هدوء ليل سبها الصامت البهيج، فيسمعه كل سكان المدينة. وكانت فترة التشغيل ساعتين يوميا، تزيد إذا تواجد ضيوف قادمون من العاصمة، في ضيافة السيد رئيس المجلس التنفيذي أو الوالي، فيتم تمديد ساعات التشغيل لساعة في الغالب. وعند اطفاء المولد يعرف كل سكان سبها ان السهرة قد انتهت، وفي الصباح، تعقد جلسات النميمة عن السهرة والاسراف في تشغيل المحرك، والوقود الذي استهلك، والذي دفع من ميزانية الدولة. في إحدى المرات، تحولت النميمة إلى استجواب رسمي، تقدم به أحد أعضاء المجلس التشريعي للولاية، الذي طالب فيه بإنهاء هذا التمييز المخجل، على اعتبار أن الكهرباء حق لكل مواطن، وليست مقصورة على كبار المسؤولين، ولم يمض عام على الاستجواب، حتى كانت الكهرباء متوفرة لأي مواطن يطلبها. للعلم، في تلك الأيام كان عدد سكان ولاية فزان خمسون الف نسمة ، وميزانيتها خمسون الف جنيه، أي جنيه لكل مواطن.
حياة لا طعم لها !!
اتصلت هاتفيا للسؤال عن الأحفاد، فردت أبنتي وفى حلقها غصة، وعندما استفسرت عن السبب انهمرت بالبكاء قائلة: يا بوي اربعة عشر ساعة والكهرباء مقطوعة، والبيت كوشة، والصغار هبلوا، محبوسين في البيت يعوموا في عرقهم .اللي واجعني يا بوي هو حالة الاحتقار التي يتعاملون بها معنا، والله لو كنا حيوانات في بلد آخر ربما كان أفضل. ما ناقص رعب الكورونا، والصغار وحبسة الحوش، الكهرباء والماء المقطوع، وطوابير البنزين ومذلة السيولة، والغلاء اللي كاوينا. الناس يا بوي ماعادش طايقة روحها، والله فقدنا الامل في كل شيء، ولم يعد للحياة لا طعم ولا معنى.
سادتنا.. احلامكم اوامر !
يقول الشاعر: لا يَعرِفُ الشَوقَ إلّا مَنْ يُكابِدُه *** ولا الصَبَابة إلّا من يُعانيها.
ويقول المثل الشعبي: ما يشعر بالنار إلا اللي عافس فيها. والكلام عن رحلة العذاب التي يخوضها المواطن الليبي التعس، أصبحت حكاية معادة وأسطوانة مشروخة ومملة. وما يجري من إهدار كرامة المواطن الليبي وإنسانيته ، لن يشعر به أحد، خاصة من ابتلانا بهم الله من حكامنا الافاضل جميعا وبدون استثناء، سواء من حكمنا بصك شرعي مطلق لا يحمل تاريخ انتهاء للصلاحية، أو من يحكمنا بصحة الوجه وقوة السلاح. لأنهم جميعا لم يخوضوا تجربة المذلة، التي يعيشها عامة الشعب، فهم سادة تتوفر لهم كل الاحتياجات بمجرد إشارة ، وربما لا يحتاجون إشارة لأن بطانة الخير، المحيطة والمستفيدة، يقومون بتوفير كل شيء تحت شعار (سادتنا.. ما دمتم في السلطة فإن احلامكم أوامر قابلة للتحقيق).
العقاب من نفس الجرم !
كتب الناشر الأستاذ سالم سعدون بطيخ على صفحته يقول:[ انقطاع الكهرباء في هذا الطقس والحظر قد يرتقي إلى جريمة ضد الانسانية ] وهذا ما أراه مطلبًا عادلًا، وأنا أعتقد أن الوقت قد حان، ليقوم كل سكان ليبيا، ممن شملهم الضرر، خلال هذه التجربة التعسة، في حالة أنهم لا زالوا يشعرون بالانتماء لجنس بني البشر، عليهم القيام برفع قضية امام المحاكم الوطنية والدولية، بالمطالبة باسترداد انسانيتهم، ممن سلبوها منهم، وهم، وبدون استثناء: من حكمونا ولا زالوا يحكموننا بصك شرعي مطلق لا يحمل تاريخ انتهاء الصلاحية، أو من حكمونا ولا يزالوا يحكموننا بصحة الوجه وقوة السلاح .ونأمل زأن تكون العقوبة من نفس فعل الجريمة، وهو قضاء مدة العقوبة في بيوتهم بعد قطع الكهرباء والماء عنهم ووقوفهم في طوابير الذل اينما كانت، فلعل وعسي يدركهم الخجل بما فعلوه بنا.