حوارات من داخل اروقة جامعة سبها – 1 )

حوارات من داخل اروقة جامعة سبها – 1 )

بقلم :: د :: عابد الفيتوري

هذه الحلقة الاولى .. مخصصة للرد على سؤال احد طلاب قسم الفلسفة .. كلية الاداب .. عن اكتساب مهارة الكتابه .. جميل ان تقنية الانترنت وفرت لنا منة التواصل ، لتعوض ما فرضته ظروفي الصحية التي حالت كثيرا دون تواصلي .. وأعاقت حركتي .. اعاني ورم السرطان لسنوات مضت ولا زلت اعانده .. وأظن انني انتصرت الان .. او اكاد .. ومع ذلك فليعذرني نزقي .. الذي لا استبعد انه ناجم بفعل تأثير الادوية .. بعد ما مجموعة عام كامل من الركون بأروقة المستشفيات بين مصحات تونس ، ومركز الحسين لأورام السرطان بالأردن .. وأربع عمليات جراحية .. والتعرض للإشعاعات عالية التأثير .. حتى صرت اشعر بضيق نفس كلما عبرت بأنفي رائحة قريبة في شداها من روائح المستشفيات والأدوية .. ( نص الحوار ) :
الطالب : – فكرت بالهدر وبالورق الذي يضيع .. لقد وجب على أن أتكلم , فأهتدى الى الافكار والألفاظ والعبارات .. ما احلى ان امشي دون ان تصفعني الجدران .. ماذا علي أن أفعل لتحسين مهارات الكتابة لدي ؟
– الجواب بسيط وقصير : تعود ان تكتب كل يوم .
الكتابة تشبه الى حد كبير رياضة رفع الأثقال .. عندما تعتاد ممارسة رفع الاثقال كل يوم .. تتدرج تلقائيا من حمل اخف الى حمل اكثر ثقلا .. وسترى مع مرور الوقت النتائج من خلال تغيرات جذرية تطرأ على تقاسيم عضلات الجسم .. وقد صارت اكثر قوة واعتدالا .. ويتسرب الرضا الى نفسك رويدا رويدا ، طالما كنت مواظبا على الجدول اليومي والأسبوعي للتمارين .. وبعد عام ترى الفرق واضحا .. وفي العام التالي تراه اكثر وضوحا .. وهكذا .. عندما تتحول الكتابة الى عادة يومية .. تتمرس مع الوقت على استخدام الاحرف وبناء العبارة بما يناسب المعنى او الفكرة .. وتدرك بصورة تلقائية المفردة اللغوية او بالأحرى الوعاء او القالب المناسب للمعنى الذي تود الافاضة عنه كتابة .. ولكن .. كما تتطلب مهارة حمل الاثقال الاحماء مسبقا .. تحتاج الى الاحماء الكتابي .. القراءة .. اي ان تجعل القراءة عادة .. وكما حمل الاثقال يستوجب الحذر من ان تحمل ثقلا اكثر من طاقة احتمالك ومران جسدك .. كذلك في الكتابة .. احذر ان تكتب فيما يتجاوز الخطوط الحمراء .. كأن تكتب في السياسة وسط بيئة فكرية معتمة .. فإن كنت تريد ان تكتب عليك ان تعرف نظام العلامات المقررة سلفا قبل ان تسطر اول كلمة على الورق .
القراءة تسبق الكتابة ، القراءة وظيفة حياتية مثل التنفس ، اقرأ لتهدأ ، واستقي تجاربك من الكتب اولا .. تفحص النص بدقة واربط النهايات السائبة بعضها ببعض .. احدس الدوافع التي كانت تحرك المؤلف اثناء الكتابة .. تأمل الاسطر السوداء والفراغات البيضاء الموجودة بينها وما تخبئه من اسرار .. ستكتشف كيف انها تحولت فجأة الى معان ذات ايقاع .. وما ان تنتهي من قراءة كتاب ستجد انك لا تستطيع الانفصال عنه .. القراءة فعلا تراكميا يحدث بصورة هندسية .. ومهمة القارئ حسب تقييم ابن الهيتم عالم البصريات : ” ايضاح ما قد تفصح عنه الكتابة من تلميحات وظلال ” .. ينسب الى ابن الهيتم انه اول من ميز بين نوعين من الادراك .. الاول يحدث بصورة لا واعية كمشاهدتنا شعاع الشمس يمرق من النافذة .. اما الثاني فيتطلب فعلا معينا من التعرف .. كقراءة لصفحة كتاب .. التي تستوجب تدرج واع في التصرف يقوم به البصر من اجل فك الرموز .. لتتولد عمليات معقدة ومتعددة في آن واحد .. التعرف .. التذكر .. الاستدلال .. الاستنتاج .. التجربة .. الفعل .. وان جميع هذه العناصر ضرورية لفعل القراءة .. وتتداخل مع بعضها البعض ضمن جملة من الروابط المدهشة .
عليك ان تعتاد حمل كتاب في يدك حيثما ذهبت وارتحلت .. ولكن من الافضل لك اوان حملات تفتيش الاشخاص في الشوارع ، ألا تفسح المجال لأن يلقى القبض عليك وبمعيتك احد الكتب المشكوك في امرها .. ككتب الفلسفة الواردة بقائمة عين الرقيب الساهرة .. كتاب ” هكذا تكلم زاردشت ” على سبيل المثال .. وأنت طالب الفلسفة وتعلم ان ما قاله في متن الكتاب عن المرأة – الموضوع الجوهري في كل حوارات مجالسنا نحن الرجال – يندى له الجبين .. ولا يغيب عنك صلف خطابة لعجوز مسنة تستجوبه وقد بلغت من الكبر عتيا : ” . بينما كنت اسير اليوم منفردا في طريقى عند الغروب ، التقيت بشيخة ناجتنى قائلة :
لقد كلمنا زرادشت مرارا نحن النساء ، ولكنه لم يتكلم عنا مرة واحدة .
قلت لها : يجب ان لا يتكلم الرجال عن النساء الا للرجال .
فقالت : لك ان تتكلم امامى عن النساء لانى بلغت من العمر اراذله ، فلن تستقر اقوالك في ذهنى .
وقبلت رجاء العجوز فقلت لها :
كل ما في المرأة لغز .. ليس الرجل للمراة الا وسيلة , اما غايتها فهي الولد ، ولكن ما تكون المرأة للرجل يا ترى ؟ ان الرجل الحقيقى يطلب امرين : المخاطرة واللعب ، وذلك ما يدعوه الى طلب المرأة ، فهي اخطر الالعاب . خلق الرجل للحرب ، وخلقت المرأة ليسكن الرجل اليها ، وما عدا ذلك فجنون .. لتكن المرأة لعبة صغيرة طاهرة كالماس تشع في فضائل العالم المنتظر . ليتوهج الكوكب السنى في حبك ايتها المرأة وليهتف شوقك قائلا :- لاضعن للعالم الانسان المتفوق ، وليكن في حبك استبسال تتسلحين به لاقتحام من يثير الوجل في قلبك .. ضعى شرفك في حبك ..غير أن الشرف في حبك هو الخلق الذى يجعلك تبادلين المحبة بأكثر منها ، فلا تنحدرين للمقام الثاني .
روح المرأة صفحة ماء ممتاوجه تداعبها الرياح ، في حين أن روح الرجل اعماق تزمجر امواجها في المغاور السحيقة القرار ، وقد تشعر المرأة بقوة الرجل ولكنها لن تفهمها .
عندئذ قالت العجوز : لقد تكلم زرادشت على اشياء طريفة اجدر بسماعها من النساء من لم يزلن في مقتبل العمر . ومن الغريب أن ينطق زرادشت بالحق عن النساء وهو لا يعرفهن إلا قليلا ” .. اي صلف اكثر من هذا !!!! .
النظم الشمولية ليست الوحيدة التي تخشى القراءة .. بل تجري مراقبة جمهرة القراء بعين الارتياب في كل دول سجون الكلمة .. انه الخوف المستشري مما قد يفعله القارئ بكتابه .. وقد انزوى في محيط غير قابل للاقتحام .
الطالب : – عذرا استاذي .. قبل ايام قرأت تجربة للأديب المصري علاء الاسواني .. يقول : ” قمت مؤخرا بالتدريس في جامعة بارد في الولايات المتحدة حيث يجب على الأستاذ أن يمنح الطالب الدرجة بناء على فهمه للدرس وقوة حجته حتى لو عارض رأي أستاذه . وفي جامعاتنا ، مهما يكن التخصص ، يجب على الطالب أن يحفظ كلام الأستاذ ويردده باعتباره الحقيقة ، والويل للطالب إذا اختلف مع رأي أستاذه .. هذه العقلية التابعة المذعنة لا تحرمنا من الإبداع فقط ، وإنما تجعلنا قابلين للاستبداد ” .. ألا ترى فيما قال دعوة للتمرد على واقعنا الجامعي .. وأنت تضع امامي المحاذير ، كمن وضع في قفص وكبل بالأصفاد .. وتطلب مني الكتابة كل يوم .. احب ان اسبح ضد مجرى التيار ، لا ان أعيش وفق ما كنت قد قرأته .. اهمس لي بشيء عن الكتابة .. واعدك ان احتفظ به لنفسي .
– هناك متعة في الكتابة اكثر مما هناك متعة في قراءتها ، وجود جمهور يتقبل فكرة متابعة ما تكتب .. ضمن اشياء قد لا تشجع البعض على الاستمرار في الكتابة .. وهكذا بطبيعة الحال وفي اكثر الاحيان ، انت في حاجة الى شريك يحفزك الى الكتابة .. ورغبة في التوافق مع الاخر في الرؤى .
الكلمات كرقيق .. هي سبي اقتنصته من وراء حملة مجحفلة في عالم الكتب وتجارب الحياة .. تأمل وإعادة نظر لإنتاج رؤية .. افراز لغصة اسيرة بين جوانحك .. النفس كمحجر لمعادن .. متنوعة بقدر روافدها الثقافية .. تحترق لفضفضة كأن تستقطع درر نفيسة من بين معادن خسيسة احتواها المحجر .
الكلمات سعال .. وفي الفضفضة بكتابتها وصف لأسباب ذلك السعال .. اكتب أي اسعل .
اكتب للحب عندما تكون طربا .. وللحزن عندما تكون كليم .. اكتب لأنك تحلم .. او لأنك تأمل واليأس يحاصرك .. اكتب للسماح للآخرين قراءة روائع بصماتك .. اكتب أسرار لا يعرفها سواك .. وعن اهوال مرت بك ونجوت منها .. ذكريات زمن ولى .. اكتب لأن لديك ما تود قوله للآخرين .. لان لديك ما تقول مما لا يمكنه ان ينتظر .. حالة مخاض وألم كاتب يتلوى .. اكتب كلما شعرت بأن رحيق الكلم حرر القلم واللسان .. اكتب لا للمقايضة .. وبلا توقعات لما بعد الولادة .. ودون الحاجة للمعاملة بالمثل .. اكتب الى لا أحد .. ولا حتى لنفسك .. اكتب شيء لتقوله وكأنه حجر مقطوع من داخل محجر بعيد القرار .
اكتب وان من باب الهدر ، ولا تتقيد بنصحي .. عن الحكومة مثلا .. والوساطات والفقر والتهميش .. وعن نهب الاموال بالمليارات .. والوزارات والسفارات .. وعن المنافذ والتهريب والعمولات .. اكتب عن جلسات الحوارات بفنادق الشواطئ الباردة للنزهات .. وعن فزان الغائبة المغيبة لعقود وسنوات .. اكتب بتجاسر اكثر .. وتسأل عن مغزى تدشين فرنسا لقاعدة ” ماداما ” على حدودنا الجنوبية مع النيجر ، اكبر قاعدة للدعم اللوجستي والعمليات الارضية والجوية بمنطقة الساحل والصحراء .. اكتب لنقترب اكثر من الوطن .. قد تكتب مقالا ويبدو لك وكأنه مرتكزا على عكازين كما انا .. لا بأس .. تبقى تجربة تراكمية تهيئ لكتابة مقال يقف على صلبه .. بلا عكاز .. اكتب في السياسة وإن عبر الانترنت .. واحذر هناك .. قد لا يكفي ان تستخدم اسم مستعار .. اكتب : ( ولا ريتني .. لا ريتك ) .

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :