رسومات بالقلب

رسومات بالقلب

 قصة قصيرة :: محمد عثمونة

لقد بدأ التعرّف عليها . لحظة دخولها وعّيه الطري . كان حينها يرْتع في ربوع طفولته , مع أقرانه من صبّية القرية . أحيانا كانوا يتقاسمون , اهجوزه بمقاس أعمارهم ، التي لم تتخطى السنين الست بعد .   شاءت الصدف , أن يتعامل ودائما , مع صدر الاهجوزه وبعضهم .  أما البعض الباقي , فكان لهم عجزها  .  أما هي , فكانت تتربع في الصدر .  ألذى كانوا ينغّمونه بحناجرهم الصغيرة ، فتخرج  لحن ونغم بريء . كان يتحسّسها في عيون رفاقه . عندما تتعالى نغما فوق رؤسهم     فكانت تشعْ بهّجة وفرح ذات مرة سمع أحد رفاقه . يتحدث عنها . فالصغير , كان في تماس معها , من خلال عيون ولسانه أبيه .  ألذى كان يسافر دائما إلى ديارها , ويمكث طويلا هناك ، وفى عودته يأتي محملا بالثياب والحلوة والأعياد . مند ذلك الزمن البعيد  , ارّتسمت على صفحات ذاكرته بهجة وفرحا . والده لم يسافر قط . إلى حيت ديارها . فقد كان به شيء  من اليُسر . بمقاييس ذلك الزمان الشظِف . كان عالمه الصغير في دلك الزمان . تتقاسمه هي مع قريته والله في سماواته بالاعالى . ومع السنين كبر وأتسع عالمه ليضم آماكن أخرى .

بعدما تخطى ابتدائية القرية . رحل إلى حاضرة الجنوب . لملاحقة العلوم والمعارف .  هناك أظهر ميل إلى القراءة . فاقتطعت المكتبة العامة القريبة من سكنه ، مساحة واسعة من وقته . صدفتا التقاها ذات يوم  , وهو يقلب كتاب في الأدب ، داخل مرثية  . تؤبن فيها أحد أبنائها . ألذى امسّك بمجامع النبل بكل كيانه ، خيل له حينها . لو خير النبل إن يختار صنو له .  لما كان غير ابنها المختار .

أحس بها تقترب من روحه ، فطفق يوسع من معارفه عنها ، فقالت :- بأن لها صحارى وأرياف , وجبل تكّسوه الخضرة على مدارا لعام . وحواضر عديد ، أكبرها تستلقي على الشاطئ . تناطح أمواج البحر بأقدامها .  وأخريات تسلّقن الجبل , واسترحن على الذروة . يستمطرن السماء شتاء .  ويلامسّن سحبها بأكف خضِبه . وقف طويلا مبهور أمام ديوانها . الذي خطّته على صفحات ذاكرتها . أشعار ونثر .  تختلط فيه الجغرافية بالتاريخ .  وتتجاور  فيه الفروسية بالصعلكة .  أما الغزل فتجده دائما . برفّقة القمر والشمس والحسناوات , وأشياء أخرى جميلة  .  وتظهر القباب والاضرحه فيه بهّيبة . تلامس قدسّية السماء .

ديوانها عندما يصعد الجبل . تزداد رقته . وتتداخل فيه التلاوين .  وعندما يذهب به الشوق المذاهب ويشتط .  تجده يرّسم أشياء مذهلة . سيقان حسناوات بأعمدة من مرمر.  وصور أخرى , تحرك في النفس , أشياء كامنة مند زمن الإنسان الأول . وعندما ينّحدر صوب الصحراء . وتحّتويه مفازتها , تجده خشنا صلبا , يخالطه جمال بدائي متوحّش . مند دلك الزمن . عرف بأنها مسّكونة بروح الشرق حتى النخاع .

في احد المرات خطر له أن يرسمها . أستلقي بعقله بعيدا . وأستدعى قلبه ، بعدما صف أدواته أمامه . وذهب في خطخطاته . حتى افرغ القلب ما عنده ، أيّقن . بان الصورة قد تكاملت . نهض عقله . وقال من فوّره وبلا  تردد :- إنها الخنساء لاريب .  ترّفل في خزّها وقزّها .  فللخنساء خز وقز . وأثواب أخرى تلبسها عند ألحاجه .  وقد فعلت . عندما تقيئ البحر . مسخ بشرى شاك السلاح .  يرفع رايات له . يزينها برسّم لدابة متوحّشة . تُرضع صغار لها . عندها تخلت عن خزّها وقزّها . ولبست ثياب الحرب ، وقذفت بأبنائها . في وجه ذلك المسخ .  فسطروا ملّحمة . ببطولات تزيّنت بها صفحات ديوانها . . .

أتت الحرب على كل شيء . وعصفت بكل ما وصلت له يدها أو لم تصل . وانقشعت بانّكسار روما . وجاءت بآخرين . يعّرفهم الشرق جيدا . فهم من زرعه دسائس وفتن . أثخنته جراحات لم تندمل بعد . وأخرى تنزف بغزاره حتى اللحظة . وكذلك يفعلون . من وراء مدنهم وعاصمتهم المغلّفة بالضباب .

مرة أخرى تحط به ألصدفه في ديارها ، بعدما أقنعه بعض من دويه . بالذهاب إلى هناك . لتحّصيل علوم ومعارف , لم يألفها من قبل .  كانت علوم ومعارف خشنة . صدامية مُتجهّمة . يؤطرها نظام صارم .  تساءل في نفسه :- هل يستطيع التوافق مع هده العلوم والمعارف ؟ وهو يملك. كيان مسالم , ولسان خجل .  غير أن صدره . ينغلق على قلب غير هيّاب .  أكتشف دلك مند الصغر . بعد خروجه من عدة معامع . خلال سنواته اليافعة  ، خضبت بالقاني فئ القليل منها  . جلس ذات مرة , يسّترجع خطوط مساراتها  العريضة من ذاكرته .  كانت في الغالب . تبتدئ بترّسيم ساحة العراك  ,  بتلاسن  . يتحوّل وبسرعة  إلى سباب متشنّج ، ثم تتعمق حدود ساحة العراك . بكلمات بذيئة عارية . لا يُجيد التلفظ بها ، ولا يستطيع تحمل وقعّها .  فيتقدم بكيانه , على نحو غير متماسك . اتجاه ساحة العراك . وما أن يقترب من حافتها . حتى ينتفض قلبه . ويفّتك أعنة كيانه . ويُدره بحزم وحرفيّة صعلوك . وما أن تضع الحرب أوزارها . حتى  ينزوي ذلك الغض , الى ركّنه القصيّ . منّهمك في دقاته الرتيبة الدافئة  . . . .

لم يصادف صعوبة في التوافق مع العلوم والمعارف الجديدة  .  أرجع دلك , إلى نشأته وأسلوب حياته . البعيد عن الترف ، وانشغاله بها  .  فها هو في ديارها يجدها أن ّأتجه . يعايشها في ظروف متنوعة .  ومع الزمن صارت قريبه من روحه . حتى الالفة . عرفها عن قُرب . كانت منّفتحة على الجميع , وأكثر بقليل على ذاتها ، على استعداد دائم , لمد يد العوّن بتلقائية فريدة .  يملاها شعور بالتفوق , على محيطها ، دلقت اللسان , لا تُجارى في الحديث والنظم . تملك الكثير من الشجاعة فقد تعتر بها ذات مره . فانتفضت كلبوئه في تحفز , يتطاير شرر . ديارها ذات مرّتع خصب , تفيض لبن وعسل . يجّدب الكثير اليه , من الجوار يتقون به الجوع وشظف العيش . وآخرون أتوها . ولهم فيها مآرب أخرى ، ألتقى أحدهم على صفحات احد الدوريات الجادة , يتحدث فيها عنها . بلسان العارف الضليع ، أتاها زمن الانتداب , تحت عابئة مستشار للمعارف . كان يحمل درجة علمية رفيعة .

استكمال العلوم والمعارف الجديدة . دهب به إلى خارج بلاده . حيت مدن الجوار . التقاها هناك في شي منها .  في جوّف الليل  . بأحد الشوارع الماجنة بقاهرة المعز .  كانت  تنّتصب في منتصف الشارع وترّبكه .  تضع يدها على أدنها . لتضبط بها إيقاع , تصّدحْ به لغناوة :-  ( شريف لَصّلْ وافى الديّ ن   . . . . .. .)-ابتدعتّها فضائات صحراوية واسعة . حدودها آفاق تلامس أطراف السماء .  فضاقت بها شوارع المدية وأزقتها واستفزتها أيضا . كان ذلك ظاهر في عيون المارة وحركتهم المتوترة .  كان واقفا يُتابع أبعاد الصوت القوى . ألذى يجوب صحارى ووديان وآفاق من شجن بدائي  ،  يسّحبه ليغطي به , سماوات المدينة الوَسِنة . اسّتغّراقه في الإنصات للصوت القوى , فصله عن محيطه تماما .  أنتبه إلى يد تحط على كتفه . وهى تقول بلهّجة مصّرية قحة :- ماله ده بيزعّق أمه ماتت وإلا أيه .  صدمه التساؤل وأضحكه . وولد بداخله تساءل :- لمادا اختارت اليد أن تحط على كتفه دون سواه ؟ هل أوّحت  ملامحه وهيئته , بأنه بعض منها .  ولكن ما اذهله كثير في لحظات عبثها هذه . كمْ تبّدو مسّكونة بحب ديارها ، وكم هي شغوفة . بأن تعلق شي منه . في عيون الناس وأسماعهم  .

انتهى من تحصيل العلوم والمعارف وعاد إلى بلاده .  وذهب مع السنين في تقلباتها ، حتى حشرته ذات يوم . في زاوية لقاء عاصف . شُحن توتر واستفزاز ، كشرت فيه , عن أنيابها ومخالبها . ربما في محاولة منها لتدّجينه ، ولإخافة الحضور ألذى يلفّه . ارعدت وازبدت وتوعّدت .  مُستنفرة المخّلب والناب  . وقف محدّق فى وجهها للحظات . ثم قدف  كل أوراقه عند قدميّها  . وقرر الرحيل .

جرّته قدماه إلى ديارها . مُودّعا . ثم رحل في غياهب . أسفار شاقة أرهقته . وعاد .  متّعب بعد سنين . أستلقي في استراحة , يُعيد فيها أنفاسه ، نفض غبار أسفاره .  تفقّد ذاته . ودويه وكل القريبين من روحه ومحيطه ، فتش عنها , بين الوجوه , فعيّنيه لا تُخّطئها ، وجدها . وقد فُرزت بعيدا , خشنت الملّبس , بوجه عابس مُتجهّم ،  كمن لاحقتّه أيادي زمن متفحش . وضيّقت عليه , ورمته على بُعد خطوات من تكفف الناس  .  أحْزنه كثيرا . ما خطته ايادى البؤس على صفحات وجهها ، شغلته أحزانه ببؤسها . أعتاد عندما تغالبه همومه . وتثقل عليه . ينسحب بعيد مع ريشته ، وبعد أن يصفّ أدواته  أمامه ، يتناولها . ويذهب في خطخطات لرسومات بالقلب .  فعل دلك كعادته ، وما أن توقفت الريشة . وجفت خطخطاتها .  ظهرت أمامه . قباب مكّفهرة الوجه . بوسع المدى ، تستسقى لها السماء . كى تُمّطرها بسنين سعدًا ، يغاث فيها الناس ويعصرون . عسى أن تتخلى عن خشن الثياب  . وتعاود ترفل , في الخز والقز . بوحه مشّرق يتوسطه . انف أخنس جميل . . . .

 

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :