بقلم :: البانوسى بن عثمان
انه يحمل فوق كتفيه رأس مملؤ بالكثير من الحماقات . انه ابني واعرفه . يجب إدخاله القفص كي لا يطير ثانيتا ، يجب تزّويجه، وإغراق هذا الرأس في الهموم اليومية الصغيرة . حتى يسّتوي . ثم أردف الأب قائلا : – لا أجد حل غير هذا . وسكت . . أطرقت الأم قليل ثم قالت :- لكنّه يتهرب عندما أفاتحه في هذا الشأن . فأنت تعّرفه حججه متينة ولا أجد أمامها إلا الصمت . . . لقد سمع حديث والديّه وهو يَهمْ بالدخول إلى حيت يجلسان . شغله كثيرا ما سمع ، واستشف ثقل ما يعانيان . فاستسّلم لرغبتهما . أتى على نفسه وتخلى عن قراره .
فمند سنوات مضت ، وبعد حوار داخلي دام طويل مع نفسه ، داخل جوف زنزانة انفرادية احتوته ظلمتها المغلّفة بزمهرير ليلة عاصفة من ليالي ديسمبر الطويلة ، في احد سجون طرابلس . أتخذ قراره بالرحيل لو تمكن من الخروج ذات يوم . . . لقد حاول الرحيل ذات مرة ، فخذلته حساباته , ورمت به في قبو زمن ميت ، تناوبه فيه زنازين وسجانين وأزمنة بطعم الموت ، لازالت مررتها تسكن حلقه . . .
كان مسّتغرق حتى (شوشة )رأسه ، في استرجاع ماضي ملاء عليه كل حواسه ، فقطعه عن حاضره ، لولا معاودة الطفل للصراخ . فأنتشله إلى آنيه في طرّفة عين . . . كان طفلهما يصرخ بصوت واهن هدّه التعب , لا يكاد يسمع من هدير السيارة المتّجه بهم مسّرعة صوّب الشمال . لكن للوالدين مسامع تحس قبل إن تسمع .، كانت الالآم ألدى يعانى طفلهما . تعتصر قلبيهما ، فينزفان دموعهما بصمت . كلا بطريقته , وليس الذكر كالأنثى . كان الصراخ ينقل لهما توجّع هذا الكيان الغضْ الملفوف بقماط من قماش . كان الجسد الصغير يستعين بالصراخ لمقاومة الالآم التي تحاول افتراسه ، عندما يفّلح في صدّها وتتراجع عنه . يغّفو الصراخ ويخّمد الجسد . ولحظتما تسّتجمع الالآم قواها وتنهض . يسّتفيق الصراخ المقاوم . كان كيان رغم طراوته عنيد لا يعّرف الاستسلام . وهما أمام كل هذا لا حول لهم ولا قوة . كانت الأم تذرف دموع سخيّة بصمت مطّبق ، من حزن يحتويها ويعتصر قلبها على طفلها البكر ، الذى تحّتضنه بحنان بالغ محاولة إلصاقه بكيانها علّ هده الأوجاع تتخلى عنه وتتسرب إلى كيانها . كانت تسّتجّمع كل قوى تركيزها فى محاولة منها , لسحب هده الأوجاع الصارخة من طفلها , لتدفع بها بعيد عنه . هكذا قال لها ذات مرة :- فئ مقّدور البعض أن يُبعد الآلام عن الكائن البشرى ، باستجماع شديد لتركيز مقرون بصورة ذهنية واضحة للمرّغوب . .لكنها رغم محاولاتها المتكررة , لم تفلح في ترّويض ذهنها والسيطرة عليه . فما أن تبدأ حتى يتفلّت ويتبعثر ، فلا تستطيع لمّلمته من فرط الإرهاق ، فتنهار وتستسلم لأحزانها …
استسلمت الآلام وتراجعت أمام مقاومة الجسد الصغير ، فسكت الطفل وغفي . .. . اتخذت السيارة المسرعة بهم صوّب الغروب . عم صمت أطبق على كل شي حوله ، تسلل عبر ممراته الى داخل ذاته ، ألتقي صوتها القادم من أعماقه قائلا له : -أعرف بأنك لن تتكلم ، فقد حفظت درس سجانك جيدا في زنازين زمنك الميت . للصدق أقول :- لم تكن نجيب في سنينك الأولى ، وصعب عليك ابتلاع دروسه وهضمها . ففشلت وفشل سجانك معك . فمدد سنين سجنك الخمسة بعدما أنهيتها يوما بيوم بل ساعة بساعة دقيقه بدقيقة ، فهو لايستطيع إطلاق سراحك ، حتى ولو أفنيت عمرك كله داخل زنازنه ، ادا لم تتعلم بان السكوت من دهب , وفى كل زمان ومكان ، وما بعدها في عوالم المجازات اللغوية الواسعة واعرف أيضا بأنك تتقدم برحلتك الحزينة هده. نحو مدن الجوار , نحو مدن بحّرية العينين . هكذا يحّلو لك تسّميتها لحظات صفوك الناذرة ، لتدق أبوابها مستنجدا بدواء ، علاج ، عافية ، تدفع بها عن طفلكما الآلام والأوجاع التي تتناوبه مند عشرة أيام فائته . وتفكك بها أخزان رفيقتك المسكينة . فصحرائك حيت منابت طفولتك ومراتع صباك ، حيت تضرب جذورك في البعيد . تخّتزن في جوّفها الكثير من الحول والطول . ولآكنها لا تخرجه لا نكد . في تجليات مملؤه بالاندهاش ففي اكبر حواضرها بالشمال ، تمكّنت به من دفع البحر بأمواجه بعيدا عن أقدام المدينة ، وجعلت منه يباس ، تم بلطته وضربت فيه طريق . ربما تشبّه بموسى , ولكن لموسى عصاه . ولصحرائك ما أن مفاتيحه لتنؤ به العصبة أولو القوة . ولك أنت أحزانك تحّملها وتذرع بها ارض الله . باحتا عن طريق تصلك بدواء ، علاج ، عافيه ، تدفع به الموت الذي يحاصر طفلك في حضن أمه . انتشله من أعماق ذاته وحواراتها الموجعة ،عودة الطفل للصراخ ..
نظر إلى ساعة يده ، كانت تشير إلى الرابعة إلا دقائق صباحا . أمامه القليل من الوقت ، ويصل بوابة العبور إلى مدن الجوار . قفز إلى دهنه (التسريح الامنى )، حاصرته هواجس سوداء . حاول جاهد الحصول على دالك التسريح اللعين . نصحوه بالذهاب إلى فرع المكتب الثاني بالإقليم الجنوبي . كان متردد ، فلا يزال جديد العهد بما هو فيه , فلم يتمكّن بعد من نفضْ غبار زنازين زمنه الميت ، رغم محاولاته المتكررة , كان الفشل حليفه دائما. فلازالت مفردات سجانيه الخشنة تعشش في تجاويف ذاكرته ، مختلطة بقرّقعات مزاليج وإقفال وصفعات أبواب فولاذية لزنازين كالقبور . لكن توجّعات طفلهما وإحزان زوجه ، جرت قدماه إلى دالك المكتب . لم يسمح له بالدخول ، أوقف أمام باب حديدي كبير يتوسطه شباك صغير ذو قضبان شاقولية ، يقبع خلفه عسكري مناوب . حدّته من خلف الشباك قائلا :- أريد من مكتبكم تسريح يمكّنني من العبور إلى مدن الجوار ، تم أردف :- فتشت هنا عن دواء ، علاج ، في المتناول ادفع به مرض يفترس طفل لي مند أيام فلم أجد . طلب العسكري هويته الشخصية . ناوله إياها . غاب العسكري خلف الباب لساعات وعاد . اعاد له هويته وقال :- لايوجد تسريح ألان ، راجعنا بعد اسبوعين . حاول أن يفتح معه باب للنقاش لإفّهامه ، فقفل العسكري الشباك دى القضبان الشاقولية الصدئة . فانّسدت في وجهه المعابر جميعها غربية وشرقية دفعة واحده
ظهور الإضاءة الساطعة لبوابة العبور الغربية ، أعاده إلى حاضره بكل تفاصيله الحزينة . ها هو أمام المنّفذ . ركن السيارة على الجانب الأخر . المقابل لمكتب الجوازات . لملم كل أوراقه ، نزل من السيارة ، عبر الطريق ألى المكتب ، وجد نفسه أمام شباك المكتب . أصابه الذهول مما راء . نفس الشباك ذو القضبان الشاقولية ، نفس الملامح التي خطّت وجهه العسكري المناوب ، نفس المفردات التي يلوكها أتنا حديثه ، نهضت روائح تملا المكان هي ذاتها التي تفوح من دلك المكتب بالإقليم الجنوبي . كظم اندهاشه ، ناول أوراقه للعسكري القابع خلف الشباك ، تفحّصها ، رفع المناوب رأسه عن الأوراق وقال :- انتظر . اختفى بالأوراق وراء أبواب كثيرة . عاد بعد زمن ، وقال بعد ان أعاد ه الأوراق : – ينقص أوراقك التسريح الامنى ، يجب إحضاره من مكتب الإقليم الجنوبي . فلا عبور للمفند بدونه ، حاول آن يفتح باب للحوار والتفاهم ، قفل العسكري الشباك دى القضبان الشاقولية ، فنّسد في وجهه المعبر ألدى لايبعد عنه سوى خطوات .
نهض في صدره غضب طفق يكبر شيء فيشاء , مع صوت قادم من أعماقه يقول :- إن رجعّت إلى الجنوب فلن تصل ، وان وصلت فلن ترّجع ، إنهم يصنعون لطفلك تابوت لا يزيد طوله انش واحد عن جسده الغض .
امتلاء صدره غضبا حتى الضيق ، ضاق به المكان ، فضاق به الكوّن , وقذف به إلى عوالم ما بين الصحّوة والغيبوبة . تراءت له قريته مطّوقة بأسلاك شائكة . عيناها وفمها , قفلت بقضبان شاقوليه صدئه , وأبوب فولاذية لها مزاليج ضخمة وإقفال كزنازين . ظهرت فى الارجاء أعقاب بنادق تحّملها أحدية ضخمة . امتلأت مسامعه بلغط لرطين تعلم فك أبجديته في ابتدائيات الجنوب زمن صباه . أناس لهم سحنات رسمت بملامح أهل الشمال البعيد , حيت منابت الصقيع المغلف بالضباب ، يلعقون قار اسود بنهم نار جهنم ، أعلام ورايات انجلوسكسونية وأخرى ذات خطوط زرقاء وبيضاء تملأ المكان . آهل قريته عِجاف لاهمات لهم , يتعالى من عيونهم صراخ ينضح حزنا . تتوسط قريته شاشة عملاقة , ينّهض منها ضجيج يغطى أشياء مذهلة , لها استفهامات بحجم الإنسان وحياته . ضجيج في ضجيج يملأ أدنيّه . استفاق من غيّبوبته مرّتبك على صوت فرامل شاحنة ضخمة , كادت تدّهسه . دفعته قليلا , أختل توازنه , كاد يسقط ارض . قائد شاحنة النفط صرخ بغضب ظاهر ، ينمْ عن سوء منابته قائلا :-إن لم تنتبه لنفسك ستقّتل . رد بصمت مخاطب نفسه :- من لم يمت بالسيف مات بغيره .
أنتبه إلى انقباض غريب في صدره . جرّ قدميّه بصعوبة نحو السيارة حيت الطفل وأمه . عبر الطريق وعلى بعد خطوت واحده من السيارة . سمع نحيب لبكاء خافت . فتح باب السيارة . رفعت فيه عينين دامعتين تتوسط وجه يعّتصره الم اصفر . قالت بصوت يغالبه البكاء :- لقد اختفى الدفء من جسده الصغير , وتحول إلى قطعة باردة . انحنى على مسند الكرسي الامامى للسيارة مولّى وجهه حيت تجلس والطفل . أزاح قماش القماط عن الوجه الصغير . وضع أصبع يده اليمنى على الجبين المتغضن . كان بارد وعيناه قد قفلتا في نوما سرمدي . رفع عينيه في وجهها . قرأت ما تقولهما . انخرطت في بكاء مغلف بشهقات هستيرية . . . استوي فئ مقعده خلف مقود السيارة ، أدارها فارتفع هديرها مغالب بكاء الأم . استدار بالسيارة مولى وجهه صوّب الجنوب . تعالى بكاء الأم وتحوّل إلى عويل . امتدت يده على نحو هستيري إلى مذياع السيارة , يفتش على غير هدى ، أتاه صوت بلحن سماوي عبر الاثير( والبلد الطيب يخرج نباته بأذن ربه والدي خبث لايخرج إلا نكد ). انخفض عويل الأم وتلاشى بكائها رويدا رويدا إلى سكُون . أطبق على عالمه , فقفل أحزانه .