سقـــوط

سقـــوط

بقلم الكاتبة الكويتية : اسماء الدعاس
بلا اتزان ..أرى كل شيء بالمقلوب .. حتى العمالقة المتحجرون بثيابهم الملائكية أصبحوا مجرد أقزام …. وبالمقلوب.
ناطحات السحاب تتابع المشهد بصمت خانق ، حالت بيني وبين فضاء اللانهاية الذي سبق وتمردتُ عليه ، بل ضيقتْ اتساعه في عيني حين أخبرتني أن لا نصيب لي من ضوء الشمس …وأن الألوان القزحية طالتها أيدي الحفاة ، الرعاة ، فأصبغتها بلون ترابي .
ها هي أطرافي تتخبط ، تحاول أن تتشبث بقضبان السجن الكبير ، وعيناي لا تفوتان فرصة مد البصر إلى أبعد ما كنت أتصور..تقاوم ارتخاء الجفون أمام ريح تصفعني على عيني أكثر من مرة.
اليوم بات السجن أكثر خيرا وجمالا..أين كنت حينها ؟؟ ألم أكن بقلب ذلك السجن أتنفس! ..كم أنا حمقاء ومغفلة ، ما كان علي أن أقارن ذلك الحب المغروس فينا بما هو أعمق ..فالبقاء على وجه الأرض منتصبة، أتنفس أفقها الملوث أفضل بكثير من أن أكون ممدة بلا حراك ، ضمن مكونات متحللة.
أعرف أنه يحبني ولأجلي واجه الدنيا ، إلا أني خذلته واستسلمت بسرعة ، ولم أكن كذلك……يا إلهي !
_لم أخطط أبدا لهذا ..هم جعلوني المغفلة الكبرى !
وأنا أتشبث بأرجوحة المنفى الذي زجيت به جسدي المشوه ببقع زرقاء..ألوح بيدي مستسلمة.. تارة أشهق وتارة أصيح ، أقطع بنبرة جنائزية أطنابا من الوعود الخاضعة .. ورأسي المثقل بالدوار يومئ بقبول كل الشروط من أجل العودة …لن أدخل بعد اليوم أي جدال..سأعتزل كلمات الحب وأحرق بيدي صفحات المنطق وأمارس كما يريدون ما تبقى من عادات الجاهلية ….المهم أن أعود
لوحت بيدي من جديد أضيف وعودا جديدة .. إلا أن وعودي تتطاير هي الأخرى … وأنا أتشقلب في الهواء أنحني أكثر من مرة لأرى انكساري .
البكاء الجامد جعلني أخشى ظلمة من نوع آخر ، ومكانا لا يتسع لأحد غيري .. انقلاب آخر تمخض عنه شهقة كبيرة استعطفت قلوب المارة ، تحرر مطلق للأطراف ، بدوت كالأخطبوط الذي يحاول أن يعقد أحد أذرعه الثمانية بأي جسم غريب ، وأنا أسأل نفسي المعلقة بين السماء والأرض :
_ يا ترى رأسي أولا أم أقدامي ؟؟
كنت دوما أبكي حين تغرس أمي أسنان المشط في شعري ، ومن أقل خشونة أتعرض لها أثناء لعبي مع إخوتي الأولاد ، الذين يرون أن دموعي مصطنعة ، ممزوجة بدلع الفتيات ..
آه …. آآآآآآآآه كم حزمة من الآلام سأجنيها الآن ، انعدم إحساسي بمن حولي لبرهة …أصبت بالصمم ، ما عدت أسمع معمعة المارة ولا صخب الوجود….مرت حياتي كلها كشريط سينمائي ، امتد بطول لحظة السقوط أمام عيني المسترخية .. هذه المرة رأيت حفلة تخرجي من المرحلة الإبتدائية ووجوه المدرسات كانت واضحة تماما ، مع أني كنت أشكو ضمور ذكريات الطفولة…رأيت فرحة والدتي حين أصبحت بالغة واحتفالها مع صديقاتها بطقوس أكثر غرابة ! حين وضعت أصابعي الأربعة في الملح متمنية لي السعادة….زارتني كل اللحظات السعيدة رغم قلتها ، حتى التافه منها ، إلا أنها بدت لي صورًا مزدحمة تستغل هذه اللحظات الحرجة .
هل هي فأل خير لما هو قادم أم … ؟!
أغلقت عيني ، أخذت أتمتم بتوسلات أزفها إلى السماء قبل أن أصل هناك..
_ لا بد أني في حلم !
كيف لا وأنا اعتدت مثل هذه الكوابيس الليلية، فأنا أغزر إخوتي خيالا :
_نعم أنا في حلم…
كل ما في الأمر رعشة ..وانتفاضة أطراف ، والقليل من الذعر ، ثم حركة لا إرادية بقدمي أو بيدي أضرب بها ما حولي ، وأستيقظ أخيرًا لأجد أمي كعادتها تبسمل وترقيني لأنام على صدرها بسلام .. وأنا في هذا الضياع اشتقت إلى أمي، هي الوحيدة التي ستؤكد لي أنني لا أزال على صدرها …ارتجفت عيوني وترددت في أن أفتحها ، وحين تشجعت ، إذ بي في وضع مقلوب ، حتى إني تقيأت قليلا من الخوف … صرخت :
_أمي…
لم أكمل ..غصصت بخصلات شعري الطويل ، نقطة ضعفي في كثير من المواجهات ، لجمتُ ثغري… دثرت وجهي القمري في كومة الشعر الأسود المنفوش، بتّ لا أرى شيئا … حرمتني تلك الخصلات رؤية طيف أمي ..آآآآآآه لو كان شعري قصيرًا .
تطايرت خصلاتي إلى أعلى ، رأيت الأقزام من تحتي يتحركون بعشوائية ، هناك من يستنجد وآخر يمد يديه في محاولة فاشلة لالتقاطي ، ومعظمهم يتقاذفني بالهمس والغمز ، استعجلوا تعريتي رغم أن تقلباتي لم تنته بعد. الآن اتضحت الصورة ، كانت أيديهم تحمل أجهزة الهاتف … أصبحتُ مادة لفيلم وثائقي !
فجأة اتسعت حدقة عيني أكثر .. تجمدتْ ….لم تبال بأشعة الشمس..انقبضت روحي كأنها تنساب من أطرافي ، زادت ضربات قلبي..حين رأيت جيوش السماء تتنزل ببطء في انتظاري !
كفوا عن مراقبة الأشرار..أيديهم ممدودة كي لا تسبقهم أيادي الأرض….الأقزام بدأت تكبر وتكبر كلما اقتربت منها . نظرت إلى السماء ..
سا ..م..ح..ن…ي

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :