مانو ديالك .. رجل السلام

مانو ديالك .. رجل السلام

كتب :: عابد الفيتوري 

” لقد ولدت والرمل في عيني .. بمنطقة تيدن ، قلب جبال آور .. وفي بداية موسم الأمطار .. قالت لي أمي : “مانو ” ، العسل مخفي تحت لسانك .. لكن لا تترك الصحراء .. الصحراء تطهر الروح ، وبعيدة عنها ، أنت أصم واعمي” .

” ولدت والرمال في عيني ” .. عنوان كتاب لمؤلفه ” مانو دياك ” .. المثقف والسياسي الذي قارع حكومات النيجر حول قضايا حقوق اهل الصحراء بشمال النيجر رافضا الاستغلال والعبث باستخراج اليورانيوم .. وكان داعية للسلام والحق في التنمية .. ومؤسس ” جبهة تحرير تموست ” ، وهي حركة ثقافية اجتماعية .

هذه الصحراء التي احبها بشغف . واستمع إلى الرجال الذين يتحدثون في وقت متأخر من الليل حول النار .. ومع صوت “الإمزاد” .. تلين المشاعر وتهون الصعوبات ، كما لو انها انغام ساحر .. لم يتوقف أبدًا عن الحلم بالنيجر المسالمة التي يمكن للجميع فيها العيش بحرية ، مع اختلاف الثقافات .. كرس حياته ليعرف ويفهم ويحب الطوارق .. هؤلاء السكان الصحراويين يمكنهم توفير احتياجاتهم ، وحتى إدارة أنفسهم .. كان يؤمن بالفيدرالية ، ولا مركزية السلطات بالاتفاق مع الحكومة المركزية.

في مايو 1990 ، تنهار أحلامه .. قتل اثنين من رجال الدرك النيجيري في شجار مع أربعة من شباب الطوارق الغاضبين ، ما وفر ذريعة للجيش النيجيري لغزو شمال البلاد وفرض قمع دموي .. ذبح ما يقرب من 600 شخص من المدنيين والنساء والأطفال والمسنين .. ارتوت الصحراء بدماء الابرياء . فلم يعد أي شيء هو نفسه من جديد .. مانو دياك ، الذي رفض حمل السلاح لأنه يقدس الحياة .. يحمل السلاح دفاعا عن كرامة اهله .

كانت انتفاضة الطوارق قد اشتعل لهيبها ، فوجد من واجبه الانخرط في سلك الثوار ضد الجيش النيجري .. وفي 1995.12.15 وكان في طريقه لحضور اجتماع سلمي في العاصمة نيامى ، تحطمت الطائرة من نوع (Cessna 337) ومات مع رفيقيه وقائد الطائرة ..ترجح الأوساط المراقبة انه كان حادثا مدبر .

نشأ متشبعا بثقافة الثورة ، رافضا لواقع الطوارق في النيجر وفي إقليم أزواد عموما ، وقد نما هذا الإحساس حين توسعت معارفه ، فكان عنوان كتابه “ولدت وفي عيني الرمل” تعبيرا عن هذا الإحساس.

اغتيل ” مانو دياك ” ، القائد الطوارقي الشهير دوليا ، في حادث تحطم طائرة في منطقة أدرار شيروت شمال شرق جبال إير في النيجر ، الصحراء الغربية بأفريقيا ، يوم الجمعة 15 ديسمبر 1995 .. قاد مانو جبهة تحرير تاموست ، احدى ابرز مجموعات المقاومة الطوارقية المسلحة .. ففي أبريل 1995 رفض تحالف مانو الموافقة على اتفاق سلام مع حكومة النيجر وقعه ائتلاف آخر من تحالف الطوارق ، واستمر في الحفاظ على قاعدتهم المقاومة في صحراء تينيري شرق أغاديز .

ولد في بيئة بدوية في منطقة “الآيير” شمال النيجر عام 1950 ، تحصل على دبلوم من المدرسة الثانوية العامة في ” أغاديز ” . وصادق بعض متطوعي فيلق السلام الأميركيين الأوائل الذين قاموا بتدريس اللغة الإنجليزية هناك في الستينيات والسبعينيات ، وممثلي المنظمات غير الحكومية العاملة في شمال النيجر . ثم عمل لفترة من الوقت مع وكالة الولايات المتحدة للتنمية الدولية (USAID) في ” نيامي ” عاصمة النيجر .. وسافر إلى الولايات المتحدة ضمن أصدقائه في فيلق السلام ، ونال الشهادة الجامعية من جامعة إنديانا .. كان مهتمًا جدًا بالانثروبولوجيا ، لكنه قرر فيما بعد السعي للحصول على شهادة في العلوم السياسية من جامعة السربون .

في جامعة السربون بباريس التقى بزوجته أوديل ، وهي طالبة في علم الأنثروبولوجيا جاءت معه إلى أغاديز لمساعدته في تأسيس شركة سياحية في أوائل السبعينيات .. بدأ بعدد 2 سيارة لاندرفر ، وصار دليلا لرحلات السواح الاوربيين عبر صحراء تينير الشاسعة والجبال الوعرة ، همه التعريف بثقافة الطوارق . وبحلول منتصف الثمانينيات من القرن الماضي ، حقق نشاطه التجاري نجاحًا باهرا ، وصار لديه أكثر من 12 سيارة رنج روفر ، توفر فرص عمل للعشرات من النيجيريين ، وبفضل شخصيته الودية اللبقة .. حاز على علاقات طيبة مع الكثير من السواح ومنهم اثرياء ومتنفدين سياسيين .

سعى وزوجته الى تكوين مكتبة تضمنت الكثير من الكتب العلمية ، والمقالات ، والبيانات الأرشيفية عن شعب الطوارق .

في كتابه ” الطوارق والمأساة ” ، الذي نشر في عام 1992 ، عبر عن دفء مشاعره العميقة في وصفه لنشأته وظروف عائلته ، وتأثير الإرث الاستعماري عليه شخصياً وعلى الطوارق بشكل عام ، والقسوة التي فرضها التاريخ الأوروبي على قومه .. وأمله في المساعدة ومد يد العون لإنقاذ شعب الطوارق . وفي فيلم “أمير الصحراء” ، الذي ظهر في عام 1994 ، كان مانو الشخصية المركزية التي ناقشت بالتفصيل بعض المشاكل التي يواجهها شعبه والأسباب التي تجعله هو وأتباعه عازمون على مقارعة المظالم والفظائع المفروضة على سكان الطوارق.

شخصيته الكاريزمية ، وذكاءه المتقد ، ومهارات القيادية .. وتواضعه وكرمه جعلته محط اعجاب الآلاف من الأصدقاء . كانت لديه رؤية مشبعة بالأمل لتحقيق هدفه بصبر.

اغتيل مانو وهو في طريقه إلى محادثات السلام مع رئيس وزراء النيجر في نيامي ، موته بوحشية شكل مأساة .. وتسببت في جرح عميق في عملية السلام .

لقد لاحظ مانو ، إلى جانب العديد من الطوارق الآخرين ، أنه على الرغم من الاتفاقات ، لا تزال أعمال العنف الانتقامية ترتكب ضد مواطنيه الأبرياء على يد عناصر من الجيش النيجيري .

النيجر واحدة من أفقر دول العالم ، وقد عانى الطوارق من حرمان أكبر من الجماعات الأخرى بسبب النكسات الكارثية التي عانوا منها نتيجة لموجات الجفاف في السبعينات والثمانينات. لقد تم تهميش الطوارق سياسياً من قبل مجموعات السونغهاي والهوسا المهيمنة .

كانت أحدى المطالب الرئيسية لجميع قادة الطوارق تقريباً هو الدعوة إلى تنمية الشمال ، وجعله أكثر توافقاً مع بقية البلاد ، واتاحة فرص التعليم ، والرعاية الصحية ، والمشاركة في الحكم . وانه على الرغم من أن العديد من المنظمات المانحة قدمت أموالاً لتنفيذ برامج تنموية جديدة في النيجر ، إلا أن الحكومة النيجيرية لم تعمل اي شيء من شأنه أن يخفف من الظروف البائسة في الشمال .. وعدد كبير من الساكنة يعانون المجاعات وفقدان ماشيتهم .

ظل الطوارق يحافظون على صبرهم منذ مائة عام عندما خضعوا قسرا للقمع العنيف من قبل المستعمرين الفرنسيين ، وتضوروا جوعًا ، وحُرموا من تكافؤ الفرص مع بقية الناس في النيجر .

سعى مانو الى تمرير إشارة إلى قادة الطوارق ، والعلماء ، والمتحدثين الرسميين للتخلي عن غضبهم وإحباطهم من الاختلافات السياسية في صفوفهم ، وجمع نقاط قوتهم من أجل التوصل إلى حل حقيقي لشعبهم .. وكان قائداً قادراً على الجمع بين الناس ، ونجح في القيام برحلته إلى نيامي للتحدث مع رئيس الوزراء ، وربما يكون قد جعل شعب الطوارق أقرب إلى المساواة في الحقوق والمعاملة العادلة. وستكون رؤيته الثابتة مصدر إلهام قوي للآخرين الذين يبحثون عن حل للطوارق.

في سبتمبر 1991 تأسست جبهة تحرير ” الآيير والأزواد ” .. ودخل الثوار في مفاوضات مع الحكومة النيجيرية توجت بوقف لإطلاق النار في يونيو 1993 ، إلا أن حركة الثوار انقسمت على نفسها .

حاول مانو اللعب على تمايز المصالح الفرنسية والأميركية ، وكان رمزا للتمرد الطارقي .. مكرساً نفسه لقضيتهم .. كان أمير الكثبان .. وظل قبره مزارا يبكيه أبناء الطوارق .. فلم يعد مانو داياك موجودًا لحثهم على الصبر .. كان لديه وحده القدرة على تهدئة المشاعر .. حزن لانهائي خيم على هذه البقاع في نهاية العالم .

جريمة أم حادث ؟ .. الطيار ، الذي ترك وراءه ثلاث فتيات صغيرات ، جمع 3500 ساعة طيران .. لكن هذه المهمة ذهبت بعيداً عن القواعد القانونية المعتادة التي لا يجرؤ أحد اليوم على استعارتها .. خوفاً من تحمل المسؤولية .. جاء رجال مانو داياك على الفور .. لكنهم لم يتمكنوا من الاقتراب من النار .. كل شيء كان يحترق .. لكن العواقب لا تقل دراماتيكية .. هذه الدراما تخلق على الأرض وضعا يصعب فيه السلام .

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :