مستشفى الشفاء

مستشفى الشفاء

  • أحمد بشير العيلة شاعر وكاتب فلسطيني

على حافةٍ عالية بين الوجود والموت؛ يقف مستشفى الشـفاء نبيّاً خرج من وظيفته الاعتيادية في علاج الملكوت البشري من الدرن والوهن، إلى انتزاع بقاءٍ هرب من البقاء، في محاولةٍ ليبقى صامداً في وجه أعداءٍ صمموا على خنقه حتى الموت… كان منذ صمودٍ مُجهداً وهو يحاول أن يقنع الحياة بأن تبقى في جسدِ مريضٍ أو جريحٍ أو كليم، كان مفاوضاً بارعاً مع تلك المسماة حياة.. لتبقى، ومع ذاك المسمى موت.. ليبتعد، لكنه الآن ، وبعد حرق يديه حروقاً من الدرجة الثالثة، يُمسك بجدرانه العتيقة خوفاً من أن تتركه وتخونه مع قذيفة ماكرة، يحاور الآن أساساتِه كلها لتبقى واقفة، وردهاته كلها كي لا تنسى مهمتها كشرايين يتدفق فيها محتاجو الخدمة، يدخلونها دماً غير مؤكسجٍ يدفق بين يدي طبيبٍ فلس.طين.ي ضليعٍ في البراعة ليحوله إلى دمٍ مؤكسج يرجع إلى جسد القطاع نابضاً كأنه الحب.

مستشفى الشـ.فاء يقف الآن مثخناً بجراحٍ لم يكن يتوقع أن يصاب بها، فقد كان مطمئناً أن أهل الأرض يحمونه بتشريعاتٍ لا حصر لها في القانون الدولي، يتصفحها كل يومٍ وهو يشرب فنجان قهوته بعد جهدٍ في تبديل وردِيتن طبّيتيْن في صباحٍ فلسطينيٍ يعاني من عسرٍ في الشروق، وهو الآن ينظر إلى مبنى النساء والولادة، يمسحه بيديه الداميتين ليهدّئ من ألمٍ أصابه إثر طعنةٍ من جنديٍ قرأ في توراته أن عليه أن يُكمل دينه بقتل أطفال غزة كي لا تسكنهم فكرةُ أن يكبر قليلاً ويحرر أرضه، ينحني مستشفى الشفاء ليجمع زقزقات مواليدٍ تساقطت من حضّاناتها كزجاجٍ مكسور ويضعها في القلب، تماماً في القلب حسرةً تنزف، وبكاءً من دماء.

مستشفى الشفاء يسمع الآن، ومنذ هجومٍ عليه، صرخات أحبابٍ وأهلٍ وأودّاء تساقطوا بالقرب منه عندما كان الموت يجرّب أسلحته الجديدة في أجسادهم المنهكة، لم يتمكن مستشفى الشفاء من مدِّ يديه ليحتضنهم وهم على بُعد أمتارٍ منه، فيداه تخضعان الآن لعملية طارئة إثر محاولةٍ لبترهما، لم تحمل يداه يوماً بندقيةً أو مسدس وهو الأكثر حاجة لها منا في الدفاع عن نفسه، بل لم يحمل آلةً حادةً سوى مبضعٍ يعيد الحقائق لمكانها في الجسد الفلسطيني بعد محاولاتٍ عديدة لتشويهها بعفنٍ أو ورمٍ أو كسرٍ في جوهرها، كان بارعاً في وضع كل خلية مكانها في الجسد الفلس.طين.ي، وهو متخيلٌ أن ذاك الجسد خريطة فلس.ط.ين وتلك الخلايا قُراها والقلب قدسها.

مستشفى الشفاء الآن مصلوبٌ أمام العالم ينزف وبني صهيون يرجمونه ويجلدونه لأنه نبيٌّ لم يُنزل لهم مائدةً من السماء. كم كان عظيماً وهو يشفِي المرضى ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله. لكنهم أبوا إلا أن يجرجروه في طريق الآلام وهو من كان يشفي من الآلام، لكن الله وعده بأن ينتصر فرفع مقامه إليه وبقى حياً كما عهدناه.

.

الآن.. مستشفى الشفاء المقاوم الشرس الصلب الأكثر وعياً من كل مباني العالم.. يقاوم، كلّ من فيه وما فيه الآن يقاوم بعد أن دخلت الفيروسات جسده العتيد. الأطباء، الممرضون، عمالُ النظافة… يقاومون. المرضى المُسَجُّون بين حياةٍ تسر الصديق أو مماتٍ يغيظ العدى… يقـ.اومون، مرافقونهم الرافعون أكفهم قرب فجرٍ لم يأتِ بعد … يقاومون، اللاجئون إليه من كدماتِ سحلٍ قاتلٍ لبيوتهم على مرأى العالم…. يقاومون. المحتمون من الخوف الإنساني؛ المعتقدون بأنهم تحت سقف القانون الدولي الإنساني وبين أعمدة اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 وبرتوكولاتها الملحقة، المكتشفون أنها صيغت لبشرٍ من نوعٍ آخر… قاموا الآن يقاومون.

مستشفى الشفاء يخضع الآن لجراحةٍ عاجلة في يديه وصدره الذي صدّ القذائف، يتعالج على يدي العبقرية الطبية الفلسطينية التي تحاول تحت أضواء النقالات التي يكاد شحنها ينطفئ أن ينقش على قلبه الكبير شيئاً من قصائد قيلت في فلسطين، وبضعة آياتٍ مبشراتٍ بنصرٍ قريب، وبعبارة مضيئة نقشوها بعناية تقول … ستبقى منارةً للشفاء.. فقط صبرُ ساعة.

مستشفى الشفاء؛ أيها الصابر المحتسب الرضيّ المتجلّد، الناهض من جراحك بعد أن قذفوك وقصفوك وسحلوك وداسوا عليك ونجّسوك، سترجع تحتضن مرضاك، صدقني سيكون مرضاك ذات يومٍ أجملَ وأكثرَ وسامة، لأنهم بكل بساطة .. سينتـ.صرون.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :