مطلع رواية مقام  الغضب

مطلع رواية مقام  الغضب

  • صفاء النجار

أروى

مثل كثيرين أفعل كل يوم أشياء عديدة، لكني في الحقيقة لا أفعل شيئا.. أبدد طاقتي في كل الأفعال؛ أصحو، أذهب للعمل، أحب، أكره، لكن لا أثر، لا نتيجة. كل ما أفعله صاخب، مشتعل، منفجر؛ بوم.. بوم، ثم لا شيء.. هدم.. هدم.. معول يسقط على كتلة، بناية، علاقة، رابطة، فتطير أجزاء الكل دون اعتبار لأي قانون أو قاعدة، ينهار المتماسك، يتفتت الصلب. تتطاير شظايا، أجزاء مشوهة، منبعجة،

لا يمكن تجميعها تلقائيا، قد يتمكن الضغط، أو التحوير من تجميع المتشظي، حيث تتوالد المخلوقات الخربة، الرعب المجسد لعدم الانسجام، عدم التوازن..

أنا واحدة من الكائنات التي تتشظى طوال يومها، وفي الصباح التالي تعيد تركيب أجزائها.

أقرب ما أكون للعروسة «تشاكي»، «أنا تشاكي.. هل تريد أن تلعب؟».

لا. ليس اسمي «تشاكي»، اسمي أروى.. أسماني أبي أروى، كيدا في أمي التي كانت ترغب في تسميتي «منة»، لكنه سجل اسمي في الشهادة أروى، وفرض اسمي عليها.

لا يعرف أبي معنى اسمي، فهو يختار الأشياء اعتباطا، لا يعرف عالم المعاني أو الدلالات، لكني أعرف، المعرفة الآن متاحة إلى حد التخمة، ضغطة على الموبايل تقدم لك معرفة العالم، ضغطة تختزل كل الجهود وتقدمها لك كي تتباهى أكثر وأكثر بما لم تتعب فيه..

اسمي أروى، أنا: النعومة والخفة والرشاقة.

اسمي أروى: العطوفة والحنونة، الطيبة القلب والمتسامحة في أغلب الأوقات.

اسمي أروى: المحبة للتسلية والمرح. الذكية جدا والتي تعرف متى تتكلم ومتى تصمت، ويسهل عليها إقناع الناس بما تريد.

إذا رأيتني، ستجذبك براءة شابة جميلة تعاني منذ أصبحت في الصف الخامس من تفتيش الراهبات وإصرارهن على مسح رموشها الطويلة للتأكد من أنها لا تضع ماسكارا، أهدابها الطويلة تلقي ظلالا على خد بارز الوجنتين، تجعلك تدرك أن سحر نظرتها يتأكد بهذه الإغماضة والكثافة التي تحمي سرا، لا تريد لأحد أن يطلع عليه.

تحترف اللعب بالكوتشينة، تعلمتها من جدتها «هانم»، جدتها لأبيها.

الجدة.. قوية، واسعة الحيلة، لكنها سهلة الخديعة، متقلبة المزاج تنتقل بين الضحك والصراخ في لحظة، هي امراة بلا قوانين غير قانون مزاجها، تتغير القواعد وفقا لحدته، تعكره، روقانه، فيمكن للصغيرة أن تهمس لها وهي تشير لورقة كوتشينة: تيتة، البنت الجميلة الحلوة دي هي اللي تكوش. تفقد الجدة العجوز موروثها، وتهز رأسها ضاحكة: البنت اللي بتكوش.

تبتسم البنت وهي تضع قواعد وتهدمها، يوما وراء يوم يشتد عودها وتمارس ألعابا أكثر دربة وخبرة، وتخترع ألعابا جديدة، لم يسمح بها أحد، وهي التي ستتحكم في قواعدها قربا وبعدا، بداية ونهاية. مع ماما، بابا، جدو، كل مدرس ومدرسة وكل زميل، وعندما تتخرج ستجد السيرك الأكبر منصوبا.. المسألة هي اللعب.. ليس المرح أو التهريج أو المزاح. لكنه اللعب فحسب.. كأنه يتيح لها / لك، الهروب من المسئولية، الخروج عن القواعد، ليس القواعد فلكل لعبة قوانينها التي يجب أن يعرفها اللاعبون قبل أن يبدأوا اللعبة، لكن ماذا عن تغيير القوانين، ماذا عن الألعاب الارتجالية، عن مهارة اختراع ألعاب جديدة تحوير، القواعد المتفق عليها، طمسها، تشويشها؟

يبدأ الأمر بتحريف صغير في القاعدة بتغيير لون، موضع البداية: إحنا بنكوش بالبنت.

ليس عليها إلا أن تكرر العبارة بثقة وضغط على كل مخارج الحروف اللاهثة والشفهية.. وهي تصوب عينيها لمن يلعب معها، ثم تغلق الكادر برموشها كأنها تأتمنه على سر خاص بينهما.

ترفض ماما هذه الألعاب، تصر على أن أحترم القواعد والأصول رغم أنني لم أعد طفلة، وهي نفسها ذاقت المر من قواعدها وأصولها.

ها أنا أعيد تركيب وجهي وألطع عليه ابتسامة تناسب الرضا الذي يغمر ماما حتى لا أعلق في دروس التنمية البشرية التي تحرص على حضورها؛ كيف تحافظين على رشاقتك؟ تساؤل يليق بالسيدات الفارغات، لذا لا بد من تطعيمه بشيء من: كيف تكسبين الثقة بالنفس، كيف تتحكمين في غضبك؟ كيف تطورين علاقاتك؟ الجيم وصالات اليوجا، حلقة من الحلقات المفرغة التي تتوه فيها النساء، لا بد من التفخيم وإضافة دبلومة التغذية الخلوية، دبلومة المهارات الاتصالية، حتى تعبير التنمية البشرية، أصبح «أكلشيه» مستهلكا، باليا، يشبه الشعارات السياسية التي لم يتحقق منها شيء.

كل دروس التنمية الذاتية لم تستطع أن تغير علاقتي بماما، دائما هناك اعتراض منها على شيء، ودائما هناك طلب مني لشيء، أي منا لم يتغير رغم تجاوزي لمرحلة المراهقة.. الخلافات المتكررة، تستنزف طاقتي، أهرب لسريري، أهرب لشاشتي الصغيرة، الفرق الموسيقية الجديدة، العالم يتجه شرقا لليابان، لكوريا، الشجار لا ينتهى بيني وبين ماما حتى أني أسميها «السيدة التي تقيم في الغرفة المجاورة»، أحاول أن أبتعد بعالمي عنها، بالصراخ، بالمراوغة.. لكن أعود وأحتاج إليها؛ علاقتنا باليومية، بالقطاعي. تتهمنى بالسطحية، بالتسرع، هذه حقيقة، لكني لا أراها صفة سلبية، من يريد العمق؟ من يريد هذا الحكمة في زمن اللا عقل؟

عرضوا عليّ أن أعمل مذيعة رفضت، أخشى مواجهة الكاميرا.. درست الإعلام في الجامعة الأمريكية، لا توجد لديّ موهبة محددة، أعمل منتجا فنيا في قناة تلفزيونية، دخلت الإعلام لأنها مهنة ودراسة سهلة، أعرف أنني لم أحقق طموح أمي عندما أدخلتني «الباك» كي أكمل تعليمي في فرنسا لكني لم أكن أريد السفر في تلك السن، لا أعرف ماذا أفعل وحدي، لا أستطيع أن أعيش في نزل للشباب أو مع عائلة فرنسية، لي صديقات يدرسن الاقتصاد في سويسرا، أو السياسة أو القانون في القسم الفرنسي في جامعة القاهرة، لكني أردت شيئا سهلا، لا أريد تعقيدات، حتى العمل بالإعلام لا يحتاج إلى دراسة. لكنها شهادة أرضي بها ماما. أو عمل الحد الأدنى مما هو واجب، ما فائدة أي شيء؟ إذا كانت الحياة تعود لتبدأ من جديد، من نقطة الصفر، ما الجدوى إذا كنا عرضة دائما للخسارة ولا شيء مجاني؟

اقترحت ماما كلية ألسن ولغات قسم لغة فرنسية كي أستفيد من دراستي، لكنني رفضت، الترجمة تحتاج لإعادة بناء التراكيب وضبط اللغة، الترجمة تحتاج لصبر، وأنا لديّ غضب.. يملأني غضب هائل ضد نفسي، ضد ماما، ضد بابا، ضد جدي، ضد فادي.. غضب من استخدام الآخرين لي، غضب من استغلالي للآخرين.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :