مَنْ يُقْنِعُ الدَّجَاجَ؟!

مَنْ يُقْنِعُ الدَّجَاجَ؟!

  • كتب / عبد الرحمن جماعة

يُقال إنه أصيب أحدهم بمرض نفسي، فصار يظن نفسه حبة قمح، وبعد جهودٍ مضنية بذلها الطبيب قال له: هل اقتنعت الآن بأنك لست حبة قمح؟ قال المريض: نعم.. اقتنعتُ.. ولكن من يُقنع الدجاج؟! هذه النكتة القديمة تستفز الأسئلة القديمة والمتجددة في داخلي.. ثمة أسئلة قد تبدو ساذجة وبسيطة وطفولية.. لكن إلحاحها لا يجعلها كذلك.. ومن هذه الأسئلة: هل كان ينبغي على الطبيب أن (يُكمل جميلَهُ) ويُلاحق الدجاج ليُقنعه بالفوارق السبعة بين الإنسان وحبة القمح؟ الإشكاليات في جوهرها ذات تركيبة مزدوجة، وذلك أبسط ما يكون من درجات التعقيد، إلا أن هذه البساطة لا تعني أنها ظاهرة وواضحة للعيان في كل حين.. ولهذا يقول الإنجليز “It takes two to tangle”(1). فكلمة “إشكال” أو “إشكالية” أو “مشكلة” تدل على التشاكل والتشابك والتعالق والتعقُّد والالتباس والخلط.. وهذا كله يتطلب طرفين اثنين– على الأقل – ليتشابكا ويتعالقا ويتشاكلا!. “It takes two to tangle” تعني أن المشكلة لا يُمكن أن تُحل بالإمساك بأحد طرفيها، وأن اللوم لا يُمكن أن يقع على أحد المتخاصمين دون الآخر. هما طرفان؛ طرفٌ جانٍ وطرفٌ مجنيٌّ عليه، أو طرفان تجنَّيا على بعضهما.. لا يهم، المهم هو أنه لا يمكن التعامل مع طرفٍ دون طرف. وبالعودة إلى النكتة.. فهل يكفي أن تكون مقتنعاً بقيمتك ومكانتك وأهميتك وحقوقك، أم أنك يجب أن تبذل جُهداً لتُقنع الآخرين بذلك؟ هل ينبغي أن نُقنع الفقير المحتاج بعدم السرقة، أم نُقنع المسؤول بأنه هو من اضطر الفقير إلى السرقة؟ في موقفين منفصلين شاهدتهما في نفس الجامع: الأول: هو إقبال الناس على ضرب سارق الأحذية أمام الجامع. الثاني: هو إقبال نفس الناس، وفي نفس الجامع على مصافحة أحد المسؤولين، إلى درجة أنني بالكاد تبينتُ وجه المسؤول من شدِّة تكأكؤ الناس عليه. مَن هو الأوْلَى بالاقناع؟ أن نُقنع الفقير بأن لا يسرق حذاء المسؤول؟ أم نُقنع المسؤول بأن لا يسرق حق وكرامة وإنسانية ومستقبل الفقير؟ هل نُقنع أنفسنا بأننا بشرٌ ولنا حقوق، أم نُقنع من دالوا علينا بأن يتنحوا عن مناصبهم لأنهم لم يراعوا فينا ذلك الحق وتلك الآدمية؟ هل نُحاسب التلميذ الفاشل على فشله، أم نُحاسب المعلم على فشل التلميذ؟ هل نلوم النائب في البرلمان أم نلوم من انتخبه؟ هل نلوم الزوجة على وجبتها الرديئة؟ أم نلوم الزوج الذي لم يحضر ما يكفي لتحضير وجبة لذيدة؟ هل نلوم صانع السيارة أم نلوم سائقها؟ هل نلوم السائق؟ أم نلوم الراكبين؟ هل نلوم اللاعب؟ أم نلوم المدرب؟ قد يبدو لك أن المقولة الإنجليزية تدعو إلى لوم الاثنين معاً، لكن المقولة لم تقل ولا يُمكن تقويلها ذلك، بل إن أقصى ما يُمكن فهمه منها هو أنَّ التشابك والتعالق لا يتم إلا بوجود الطرفين معاً، وأنه لا يُمكن النظر في القضية دون استدعاء كلا الطرفين إلى قاعة المحكمة.. وإن أي إجراء يتم اتخاذه قبل ذلك يُعد إجراءً باطلاً ولاغياً في نفس الوقت، وإلى هذا الحد ينتهي دور المقولة. وبالنظر إلى ما حدث في الجامع؛ فهل كان على الناس أن يُمسكوا بالمسؤول من ربطة عنقه الفاخرة، كما أمسكوا ذلك الفقير من أسماله البالية؟ وأن يسألوا المسؤول.. لا الفقير: لماذا تركته يسرق؟ أما عن ذلك المجنون الذي ظن نفسه حبة قمح فإن إجابته على سؤال الطبيب تنسجم انسجاماً تاماً مع القاعدة العامة، فلا يُمكنك أن تُقنع الأسد – مثلاً – بأنك رجل صالح أو ابن عائلة كريمة، أوأنك تحمل شهادة دكتوراة، أو أنك حافظ للقرآن الكريم، إذ أن كل ذلك لا يعني له شيئاً.. فأنت في نظره مجرد قطعة لحم كبيرة طازجة وطرية تكفي لسد جوعه لأسبوع كامل!. فالمشكلة في نظر ذلك المريض ليست في اقتناعه هو من عدمه، إنما الإشكال كل الإشكال فيما تعتقده الدجاجة. كما أن المواطن ليس عليه أن يُقنع نفسه بأنه مواطن، وأن له حقوقاً يجب أن تؤدّى، وله حاجات لابد أن تُسد، وله كرامة ينبغي أن تُصان.. بل يجب على المسؤول أن يقتنع بذلك.. ويعمل عليه. هذا هو الطرف الأول في القضية.. إلى هنا قد تبدو القضية واضحة.. وأن المسؤول هو الجاني.. لكن القاضي يرفض النطق بالحكم، لأن القاعدة التي تأسست عليها المحكمة هي: “It takes two to tangle”.. وعليه فلا يصح أن يقوم القاضي بالإمساك بطرفٍ دون الآخر.. ولذلك قام القاضي بتوجيه السؤال التالي للطرف الثاني (المواطن): لماذا قمت بانتخاب هذا المسؤول؟ وإلى هنا ينتهى دور القاضي.. يقوم من مجلسه(2)، تاركاً مطرقته الخشبية، وملفاته المبعثرة، وتاركاً لكم حرية المرافعة عن المواطن، أو عن المسؤول، أو الإدلاء بشهاداتكم مع أو ضد أحدهما.. أو حتى النطق بالحكم!. ………………. 1- يرجع أصل المثل إلى أغنية في عام 1952 بعنوان: “it takes two to tango” أي بمعنى: تحتاج اثنين لرقص التانغو.. وعندما استخدم المثل في الصراعات السياسية ظن الناس أن اللفظة هي “tangle” بدلاً من “tango” وذلك بسبب تشابه النطق. 2- عندما قام القاضي من مجلسه، سمعته يقول: “اقعدوا فيها”، ولكن لم أفهم ماذا يقصد!.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :