نفحات من الذاكرة ( عمتي سدينة ) روح وريحان وجنات خلد

نفحات من الذاكرة ( عمتي سدينة ) روح وريحان وجنات خلد

  • حمزة الحاسي / درنة
حمزة الحاسي

(103 – 1991 – 273 – 1988 ) انتظر لحظة سيدي القارئ ! هذه ليست مُجرد أرقام ،وليست من في الصورة مُجرد إنسانة . الحدث عالمي ، ولم تُستثنَ قريتي كِرْسة من أن تأخذ نصيبها من الحدث . عَلِقت قضية “لوكربي” في أذهان العالم بأسرهِ ووحدها المواقف الإنسانية ظلت عالقة في ذاكرتي . سنة 1988 انطلقت ْ الرحلة رقم 103 وعلى متنها 273 مسافرا من مطار “فرانكفورت”ألمانيا الغربية والوجهة مطار “ديترويت” الولايات المتحدة .حيث سقطت الطائرة في قرية “لوكربي” أسكتلندا عقِبهُ تحقيق مدتهُ ثلاث سنوات من قبل شرطة “رام فيرز”ومكتب التحقيقات الفيدرالي (إف . بي. آي) . أُصدرت أوامر بالقبض على اثنين من الرعايا الليبيين في نوفمبر 1991 .. نعم …ليبيا التسعينات وأزمة الحصار في تلك الحقبة المريرة من عُمر الوطن وفي تلك السنين العجاف ارتفعت الأسعار وشحت المادة وقلت السلع وندر الأصل والمنبت . في تلك الفترة لمْ تكُن مُرتبات الموظفين كافية لسد الرمق فما بال أننا دخلنا أزمة إنسانية لم تزل عالقة في ذاكرتنا إلى يومنا هذا . كُنت حينها في مرحلتي الابتدائية وكان أبي موظفاً عادياً ولم أكُنْ الوحيد بل كان لي أشقاء وشقيقاتٍ أيضاً . أبي صاحب العائلة المُكونة من أحد عشر ابنا وابنة وأمي ربة البيت اللذان عاشا الحدث رغماً عنهما بحلوهِ الذي لم يكن موجودا ، وبمرهِ النزِق الذي لم يُغادرنا . مثلهم كمثل كُلٌ العائلات في ليبيا إلا أن صاحب المعاش الواحد كان أكثر سوءا من غيره بفقر أو بفقرين . إخوتي الذين تقاسمت معهم تلك الفترة كان جلهم تلاميذ في مراحل التعليم الابتدائي والإعدادي والمتوسط ومنهم من كان يتعلم نطق حروفهِ الأولى . بعد أن ارتفعت أسعار المعيشة وقد لاحت في الأفق شعارات ربط الأحزمة . كان ثَمنْ عُلبة الحليب آنذاك يساوي “خمسة” دنانير وهو مايعادل وقتها خمسة أضعاف سعرها الأصلي حينها لمْ نصمد كثيراً وأصبحنا كغيرنا نستغني شيئا فشيئا عن أساسياتٌ اعتدناها ومنها إفطار الصباح واستبدال وجبة الحليب بالشاي التي يدركها الليبيون جيدا . عندما يكون الإنسان إنسانا وتظهر المعادن النفيسة لتكشف عن مدى طُهرها ونُبلها ونقائها ليس في زمن الرخاء وإنما في أشد الأزمات شحا. عمتي (سِدّينة) لم تكن هي الأخرى أفضل حالاً ولا أصغرُ عائلة منا .إلا بمزرعة صغيرة بها بقرة واحدة وبضع دجاجات ، فأصر معدنها النفيس وروحها المُبتسمة على أن تأتي لنا كل ليلةٍ لتخفف عنا وطأ جريمة الكبار وشنائِع القرارات وتآمر الدول . تأتي كل ليلة حاملة إناءً كبيرا (بكرج) به حليب بقر طازج من بقرتها الوحيدة لتبعث الأمل بإشراق يوم جديد ، لازالت تِلك النبرات وصوتها الدافئ المليء بالمحبة والإنسانية في أذني وهي تقول (أعويلتي هم أعويلتك ياسليمة) لا تغادر قبل أن تبْتسم لنا نحنُ الأحد عشر شقيقا ، وكانت عندما تنسى أن تحضر لنا الحليب ليلاً .تفاجئنا بطرق باب منزلنا في الساعة السابعة صباحاً أي قبل ذهابنا إلى المدرسة. ولكن في هذه المرة يأتي الحليب دافئا ومُنكها بطعم (المرتقوش) وتقول لنا إنه جاهِز للشرب . استمر ذلك طويلاً إلى أن نزلت الأسعار تدريجياً وفُك الحصار عن ليبيا . مضت تلك السنوات سريعا حتى عندما أراها أرى عظمة تلك الجارة وطيبتها وإنسانيتها التي قلّ نظيرها كُنت عندما أراها أيضاً أشتم رائحة (المرتقوش)من خلايا ذاكرتي السرمدية التي نُقشت كما التاريخ . أنا على يقين أننا لمْ نكُن العائلة الوحيدة التي كانت تفطر على حليب بقرتك الوحيدة لأنهُ كان سراً بينك وبين الله. كم أنت عظيمة ونبيلة وأم رؤوم. تستحقين ملايين الرحمات وشآبيب المغفرة وطيب الله ثراك وداعاً …..وداعاً عمتي سدّينة رحلتِ جسداً وبقيتِ روحاً لأن الرائعين لا يرحلون من الذاكرة . عجزت قريحتي أن ترثيك شعراً.ولكنها لمْ تخْجل في قول الحقيقة . 28_يونيو _2019

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :