بقلم :: د :: عابد الفيتوري
العام الدراسي 1970 م .. قبلها بأيام محدودة .. تم تسوير نوافذ الفصول المدرسية .. شبابيك حديد فولادية .. منعا لهروب الطلبة فترة الاستراحة .. ما لم يكن لأغراض اخرى ولا ندري .. لكن الطلبة كانوا لهم بالمرصاد .. يخلعون الشباك ويبقونه مكانه وكأنه متماسك والجدار .. كان حال معظم الفصول .. لكن فصلنا اولى رابع ومعظمنا من اهل القرى الوادعة .. لم يتجاسر احد على تحطيم القضبان الحديدية .. كان الطلبة على علم بحملات التجنيد من المدارس الاعدادية .. مدرسة سبها الاعدادية القديمة .. وفي ذلك اليوم لحظة دخول قوات التجنيد .. عم هرج ومرج ممرات الفصول .. كان فصلنا اولى رابع .. في الواجهة .. الفصول الخلفية المسماة ” الربع الخالي ” .. وفيما فر البعض من نوافذ الفصول الاخرى الغير مسيجة .. بقينا نحن الاربعة بالفصل .. وجميعنا من قرية مجدول النائية اطراف سريرة ادهان مرزق والقطرون .. وعندما ولجوا فصلنا مدججين باللباس العسكري .. اخذتنا الصدمة .. مذهولين مجفلين .. لم نجد سوى الانزواء في ركن الفصل .. وكان الحال اشبه بزريبة غنم .. الخرفان تتواثب هنا وهناك .. والضباع تحاصرها من كل زاوية .. بقينا مكاننا كنعامة دفنت رأسها ساعة الخطر المحدق .. الصدمة افقدتنا الفكرة .. واذ لا مفر .. قبض احدهم معصمى وسحبني الى الخارج .. ركبنا الحافلة التي تنتظر ساحة المدرسة الخارجية .. ومنها الى معسكر ” اساس تدريب سبها ” .
استقبلنا رئيس العرفاء سعد محمد .. سألنا : انتم متطوعين ام من طلبة المدارس .. قلنا له : نحن من طلبة المدارس ولا رغبة لنا في التجنيد .. لم يرد .. ومضى في حال سبيله .. سألوا كل واحد منا عن اقاربه في سبها .. قلت لهم اخي الاكبر ولي امري .. ويعمل في شركى الكهرباء .. ذهبوا اليه وابلغوه بأنه تم تجنيد شقيقه .. وبرغبته .. وعليه ان يكتب ما يفيد موافقته .. رفض اخي .. لكنهم وقعوا بديلا عنه .. وطلب مني الضابط كتابة طلب ابدي فيه رغبتي الانضمام للقوات المسلحة .. رفضت .. قال لي : اخيك وولي امرك .. هذه موافقته .. ومضى في حال سبيله .. واذ لا مناص .. انخرطنا في برنامج التدريب .. حركة المسير والهرولة .. بندقية .. رشاش .. غدارة .. تدريبات على الاسلحة الخفيفة .
ذات يوم حضر عضو القيادة .. ابوبكر يونس .. سألنا من يرغب في الاستمرار ومن لا يريد الانضمام للقوات المسلحة .. رفعنا ايدينا نحن الاربعة .. ضمن اخرون .. قال : هؤلاء يتم تسجيلهم في قائمة عدم المغادرة .. واردف .. انتم ترفضون نداء الواجب .. والوطن .. وجريمتكم عقوبتها الاعدام .. ومضى في حال سبيله .
عند هذا الحد .. وإذ لا مناص .. تجاوبت مع القدر .. ومن اساس تدريب سبها .. الى رحبة المدفعية بالبيضاء .. عملت كمدرب محترف .. للبندقية الرشاش .. كنت قد تحصلت على الترتيب الاول خلال الدورة التدريبية على الرشاش .. فاختاروني للتدريب بالكلية العسكرية للضباط طرابلس .. قضيت سنوات محدودة .. ودارت الايام .. وتمكنت من الانفكاك والعودة الى فزان .. معلم بمركز اساس التدريب .. الى حين تقاعدي .. فيما اختار احد زملائي الاربعة الاقامة بالبيضاء .. ولا زال هناك .. واليوم له احفاد .. قال لي : لن اعود الى هذه البلدة المسماة سبها .
لا زالت تلك اللحظات التي حشرنا فيها ركن الفصل الدراسي ماثلة امامي .. وتعاملهم معنا بقسوة .. حتى انني ذات يوم وكنت ضابط خفر المركز .. حضرت حافلات بها حوالي 300 مجند .. كانوا جلهم من اهل قرى وادي الشاطئ النائية .. رفضت استلامهم دون رسالة رسمية من المنطقة العسكرية .. حيث القلعة .. لكن الضابط المكلف لم يجد امام رفضي من سبيل .. اتصل بآمر المعسكر في منزله .. ضابط برتبة رائد .. والاخر اتصل بي الامر مباشرة .. وبنبرة مكره .. قال لي : اقبلهم .. قلت له : اقبل بهم على ان تتولى الكتيبة المجندة لهم حراستهم .. وحضرت حرايات من الكتيبة خاصة بهم .. كان هناك هنقر ضخم محكم الاغلاق .. لكنه من الخلف به فتحة .. سددتها بقطعة خشب .. وزعت عليهم مستلزمات النوم .. وفي الليل .. نام الحراس ..اوعزت لهم بالتسلل بهدوء .. ( القومه .. السور .. واجري على طول بطنك ” .. ووافقني الامر احد الحراسات منهم .. كان من وادي الشاطئ .. ولمح قريب له من بينهم .. وفي الصباح .. نهض الحراس .. فلم يجدوا احد .
وها انا بعد رحلة طويلة مع السلاح والتدريب .. وقد تطاول العمر .. انتظر مرتب تقاعدي .