“ليبيا: معبر الموت والأمل – مأساة المهاجرين بين الصحراء وأمواج المتوسط”

“ليبيا: معبر الموت والأمل – مأساة المهاجرين بين الصحراء وأمواج المتوسط”

تحقيق / سلمى عداس.

في زوايا غامضة من عالمنا، حيث تتحول الأراضي الشاسعة إلى عائق والبحار اللامتناهية إلى حفرة من المجهول، يجد آلاف المهاجرين أنفسهم عالقين بين حكايات اليأس وطموحات الأمل. على أرض ليبيا، حيث الصحراء لا تنتهي وأمواج البحر تقبع بانتظار الأرواح الهاربة، يشرع المهاجرون في مسعى محفوف بالمخاطر، هروبًا من جحيم الحروب والفقر. ومع مرور الوقت، تزداد خطورة الرحلة، ليصبح كل يوم يحمل بين طياته سؤالًا عن الحياة والموت. وفي كل زاوية، تبقى هناك قصص تُحكى عن الأمل الذي سرقته عصابات التهريب، وأرواح قد تتبدد في طريق شاق نحو المجهول.

في ليبيا، هذا المعبر بين أفريقيا وأوروبا، تتشابك الخيانة مع المعاناة، وتتداخل أحلام البسطاء مع كوابيس الموت. عبر هذا التحقيق، نغوص في تفاصيل مروعة عن رحلة المهاجرين، من أهوال الصحراء إلى جحيم البحر، لنكشف الحقيقة خلف تجارة البشر التي لا تعرف الرحمة.

شبكات التهريب: عندما يتحول الأمل إلى تجارة مميتة

شبكات التهريب تستغل يأس المهاجرين وحاجتهم لتحقيق أحلام بسيطة، فتقدم لهم وعودًا براقة، لكنها تنتهي بمعاناة لا توصف. في المناطق الحدودية، يبدأ المهاجرون رحلتهم من النيجر ومالي وتشاد والسودان ومن الكثير من دول أفريقيا، ليصلوا إلى سبها والكفرة، حيث تتكاثر المخاطر.

العبور المظلم: شهادة مهاجر من النيجر،

يروي يوسف، مهاجر شاب من النيجر، تفاصيل معاناته أثناء رحلته عبر الصحراء الليبية، حيث واجه ظروفًا أشبه بالكابوس. يقول يوسف: “تم احتجازنا في مكان أشبه بالسجن. كانوا يعاملوننا كالأسرى، بلا رحمة ولا إنسانية. عندما طلبنا الماء، واجهنا الضرب والإهانة. لم أتخيل يومًا أن البشر يمكن أن يتصرفوا بهذه القسوة مع بعضهم البعض.”

التهديد بالمال مقابل البقاء على قيد الحياة

كان يوسف، كباقي المحتجزين، يواجه ضغوطًا متزايدة لدفع المال مقابل إطلاق سراحه. يضيف: “هددونا بأننا لن نخرج من هذا المكان أحياءً إذا لم ندفع. لم يكن لدينا خيار سوى الاستسلام لمطالبهم.”

بين الأمل والخوف

يوسف لم يكن وحده، فقد كان معه مجموعة من المهاجرين الذين يتقاسمون نفس المصير. الأمل بالوصول إلى حياة أفضل في أوروبا كان دافعهم الوحيد لتحمل هذه الظروف القاسية، لكن الخوف كان حاضرًا في كل لحظة.

نهاية مظلمة وبداية جديدة؟

قصة يوسف تجسد الظلم والجشع الذي يسيطر على شبكات تهريب البشر، حيث تتحول أحلام البسطاء إلى كوابيس. ما زال يوسف يحمل ذكرى هذه التجربة المريرة، لكنه يأمل أن تسلط شهادته الضوء على معاناة المهاجرين وتساهم في تغيير واقعهم.

الصحراء الليبية: الموت عطشًا وجوعًا

في مايو 2022، انطلق ثلاثة شبان سودانيين في رحلة محفوفة بالمخاطر عبر الصحراء الليبية، أملًا في الوصول إلى أوروبا. تعطلت سيارتهم في منتصف الطريق، وتركوهم بلا ماء أو طعام. في تسجيله الأخير، قال أحدهم: “إن متنا، أخبروا أهالينا أننا حاولنا.”

بعد أيام من البحث، عُثر على جثثهم وقد فارقوا الحياة تحت شمس الصحراء الحارقة. وفق تقارير حقوقية، كان هدفهم الانضمام إلى مئات المهاجرين على الساحل الليبي، أملاً في عبور المتوسط. قصتهم المأساوية تسلط الضوء على المخاطر القاتلة التي يواجهها آلاف المهاجرين في رحلة البحث عن حياة أفضل.

قصة نجاة: عائلة سودانية تنجو بأعجوبة

في يونيو 2024، عاشت عائلة سودانية لحظات مروعة عندما تعطلت سيارتهم وسط الصحراء. نفد منهم الماء والطعام، وتوفيت الأم بعد يومين. الأب، الذي حمل طفليه سائرًا في الصحراء، يقول: “كنت أرى الموت في عيون أطفالي. عندما رأيت المنقذين، لم أصدق أننا سنعيش.” نجت العائلة بعد تدخل فريق إنقاذ ليبي، لكنها تحملت خسائر نفسية فادحة.

مخازن الموت: حيث يتحول المهاجرون إلى أرقام

في مخازن معروفة بضواحي الكفرة، يتم احتجاز المهاجرين في ظروف قاسية وغير إنسانية. نعيمة جمال، شابة صومالية، عاشت تلك اللحظات. تقول مكبلة اليدين في مكالمة فيديو لعائلتها: “أرجوكم، ساعدوني. لا أستطيع التحمل أكثر.” رغم جهود عائلتها لجمع المال، انقطع الاتصال بها، وبقي مصيرها مجهولاً.

البحر المتوسط: قارب الموت الأخير

ليبيا تُعتبر المحطة الأخيرة للمهاجرين قبل عبورهم البحر المتوسط نحو أوروبا، لكن الرحلة غالبًا ما تنتهي بمأساة.

قصة مأساوية: غرق شقيق اليوتيوبر المصري “جبس مصر” أثناء الهجرة

في مارس 2024، تحولت رحلة البحث عن حياة أفضل إلى كابوس مأساوي، عندما أعلن اليوتيوبر المصري الشهير بـ”جبس مصر” عن اختفاء شقيقه إسلام، البالغ من العمر 21 عامًا، والذي كان يحلم بالوصول إلى أوروبا عبر الهجرة غير الشرعية.

بدأت القصة عندما قرر إسلام الانطلاق في رحلة محفوفة بالمخاطر من ليبيا إلى إيطاليا عبر البحر الأبيض المتوسط. استقل قاربًا مكتظًا بالمهاجرين، يضم حوالي 70 شخصًا، معظمهم من الشباب الذين يحلمون بحياة كريمة في أوروبا. ولكن الرحلة سرعان ما تحولت إلى مأساة، حيث تعرض القارب للغرق قبالة السواحل التونسية بسبب الأمواج العالية.

بحسب فرق الإنقاذ، تم انتشال 30 شخصًا أحياء، بينما اختفى إسلام مع 40 آخرين في مياه البحر. وقد انتشر تسجيل صوتي من أحد الناجين يروي فيه لحظات الغرق المؤلمة، قائلاً: “حاولنا إنقاذ أنفسنا، لكن الأمواج كانت أقوى منا. كان الجميع يصرخون، وكانت الفوضى لا تُحتمل.”

على الجانب الآخر، لجأ شقيقه “جبس مصر” إلى منصات التواصل الاجتماعي، لا سيما “تيك توك”، مناشدًا الجمهور التونسي والعربي للمساعدة في العثور على شقيقه المفقود أو تقديم أي معلومات قد تفيد في تحديد مصيره. مقاطع الفيديو التي نشرها حملت مشاعر مؤثرة، حيث قال: “أرجو من أي شخص يعرف شيئًا عن شقيقي إسلام أن يتواصل معنا. نحن لا نعرف إن كان على قيد الحياة أم لا.”

هذه القصة، التي انتشرت بسرعة على وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي، تسلط الضوء على المخاطر الكبيرة التي تواجه المهاجرين غير الشرعيين خلال رحلاتهم عبر البحر. كما تعكس اليأس الذي يدفع الكثير من الشباب لخوض مغامرات مميتة بحثًا عن مستقبل أفضل.

مأساة الهجرة وأبعادها

تعتبر مأساة إسلام واحدة من آلاف القصص التي تروي معاناة المهاجرين عبر البحر المتوسط. وتشير تقارير المنظمات الدولية إلى أن مئات الأشخاص يفقدون حياتهم سنويًا أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا.

رحلة الموت: حكاية فاطمة وزوجها في الصحراء الليبية

فاطمة، مواطنة مالية، تحكي بمرارة تفاصيل رحلة مروعة عاشتها مع زوجها أثناء محاولتهما العبور من مالي إلى ليبيا عبر الجزائر. رحلة مليئة بالمآسي والخوف، حيث بدأت بالأمل وانتهت بالمأساة.

انطلقت الرحلة من مدينة تمبكتو، حيث كانت الشاحنة الصغيرة التي تقلهم مكتظة بعشرات الرجال والنساء، وجميعهم يحملون أحلامهم في حياة أفضل. تحت لهيب الشمس الحارقة وبرد الليل القاسي، كان الركاب يعانون من قسوة الطريق وقطاع الطرق الذين لم يترددوا في نهب كل ما يملكونه.

مع وصولهم إلى الصحراء على مشارف الحدود الليبية، أخبرهم الرجل الذي قادهم بسيارته أن عليهم الانتظار، حيث سيأتي زميله بسيارة أخرى لنقلهم إلى داخل الأراضي الليبية. أشار لهم بالبقاء في مكانهم، مؤكدًا أن السيارة ستصل قريبًا. كان الجميع مرهقين لكنهم تمسكوا بالأمل وانتظروا.

مرّ اليوم الأول دون ظهور أي سيارة. البرد القارس في الليل زاد من المعاناة، وكان زوج فاطمة، الذي عانى طوال الرحلة من تعب وإرهاق شديدين، يفقد قوته تدريجيًا. في اليوم الثاني، ازدادت حالته سوءًا وفارق الحياة بين يديها. تقول فاطمة: “لم أستطع فعل شيء لإنقاذه. لم يكن لدينا ماء أو طعام كافٍ، ولم يكن أمامنا خيار سوى تركه في الصحراء لإنقاذ أنفسنا.”

مع نفاد الماء والطعام، قرر الباقون السير على الأقدام في محاولة للنجاة. استمرت فاطمة ومعها عشرات الرجال وامرأتين فقط في التقدم، لكن الصحراء كانت لا ترحم. بدأ أفراد المجموعة ينهارون واحدًا تلو الآخر بسبب الجوع والعطش، فيما كانت فاطمة تحاول الصمود على الرغم من الألم النفسي والجسدي.

بعد أربعة أيام من التيه في الصحراء، عثر عليهم مجموعة من الصيادين المحليين الذين كانوا يتنقلون في المنطقة. قاموا بإنقاذهم وأخذوهم إلى منطقة مأهولة. ولكن الصدمة الكبرى كانت عندما اكتشفوا أنهم ما زالوا في الصحراء الليبية، بعيدين عن الوصول لأي مدينة أو هدف.

اتضح لاحقًا أن الرجل الذي قادهم قد تآمر مع عصابة، حيث أخذ أموالهم وتركهم في الصحراء بوعود كاذبة بأن زميله سيأتي لنقلهم، ليجدوا أنفسهم ضحايا خيانة قاسية.

تختم فاطمة قصتها قائلة: “كانت رحلة موت حقيقية، فقدت فيها زوجي وأحلامنا. كان الطريق مليئًا بالخيانة والقسوة، لكني ممتنة أنني ما زلت على قيد الحياة لأروي هذه المأساة.”

قصة فاطمة تجسد معاناة المهاجرين الذين يغامرون بحياتهم في سبيل تحقيق حلم أفضل، لكنها أيضًا شهادة على الخطر الذي يواجهونه بسبب الجشع والخيانة في هذه الطرق المحفوفة بالموت.

قصة نجاة: شاب سوري يروي لحظات الموت

“كنت في السابعة والعشرين من عمري، مليئًا بالأمل رغم كل الصعوبات. الحرب دمرت حياتنا في سوريا، ولم أعد أرى أي أفق لمستقبل أفضل. قررت المخاطرة بكل شيء، تمامًا مثل آلاف الشباب، بحثًا عن حياة جديدة في أوروبا.

انطلقت من سوريا عبر شبكات التهريب، حتى وصلت إلى ليبيا. كان الطريق مليئًا بالمخاطر، لكنني لم أكن أعلم أن الجزء الأصعب من الرحلة لا يزال أمامي. عندما كنت في قلب الصحراء الليبية، كنا مع مجموعة من المهاجرين على متن شاحنة يقودها مهرب وعدنا بإيصالنا إلى مدينة ساحلية لنركب القارب نحو أوروبا.

لكن فجأة، تعطلت السيارة وسط الصحراء. أخبرنا السائق بأنه سيعود بمساعدة، لكنه لم يعد أبدًا. كنا وحدنا، لا طعام ولا ماء يكفي الجميع. شربنا من بقايا ماء وجدناه في زجاجات كانت ملقاة في السيارة، وحاولنا النوم قدر الإمكان لتجنب العطش. كل يوم كان يبدو أطول من السابق.

بعد ثلاثة أيام من الانتظار واليأس، قررت مع أربعة آخرين أن نسير. لم تكن لدينا أية فكرة إلى أين نتجه، لكن البقاء كان يعني الموت. كان السير تحت شمس الصحراء الحارقة قاسياً، والبرد ليلاً أكثر قسوة. بدأنا نفقد قوتنا، لكننا كنا نتشبث بأمل ضعيف بأننا قد نجد من يساعدنا.

بعد أربعة أيام من السير والإنهاك، وجدنا أنفسنا أمام مجموعة من الشباب يقودون سياراتهم في الصحراء. للوهلة الأولى، اعتقدنا أنهم مهربون أو أشخاص يعملون في نفس الشبكات، لكن تبين أنهم كانوا عائدين من مهمة أخرى. هم من أنقذونا، وأعطونا الماء والطعام، ونقلونا إلى مكان مأهول حيث تمكنت من تلقي الرعاية اللازمة.

بعد أيام من العلاج والراحة، عدت لاستكمال رحلتي نحو أوروبا. استغرقت رحلتي شهورًا أخرى بين محاولات فاشلة، وعقبات جديدة، لكنني لم أستسلم. في النهاية، وصلت إلى أوروبا. الآن، وأنا أنظر إلى الوراء، أشعر بمرارة الخسائر التي تكبدتها؛ فقدان الأصدقاء، والخوف الذي أصبح جزءًا مني، لكنني أيضًا ممتن لأنني استطعت تحقيق حلمي، حتى لو جاء بثمن باهظ. آمل أن تكون قصتي تحذيرًا ودعوة للآخرين بأن يدركوا ثمن هذه الرحلات القاسية.”

حكاية مهاجر صومالي: رحلة الأمل والوجع بين ليبيا وأوروبا

في ديسمبر 2020، غادر فريد، شاب صومالي يبلغ من العمر 17 عامًا، بلاده هربًا من أهوال الحرب والجوع والفقر. كان أمله الوحيد أن يصل إلى أوروبا، حيث يمكنه بناء حياة جديدة بعيدًا عن المعاناة. لكن ما كان يعتقد أنه مجرد محطة عبور عبر ليبيا، تحول إلى فصل جديد من المآسي في رحلته الطويلة.

الوصول إلى ليبيا: من حلم العبور إلى كابوس الاحتجاز.

عندما وصل فريد إلى الأراضي الليبية، سرعان ما وقع في قبضة المهربين، الذين احتجزوه في مركز غير قانوني بالقرب من مدينة سبها. هناك، تعرض للتعذيب النفسي والجسدي وأُجبر على الاتصال بأسرته لجمع المال. يقول فريد: “كانوا يعاملوننا بوحشية. كنا نعيش على القليل من الماء والطعام، وتعرضنا للضرب بانتظام.”

بعد أشهر من الاحتجاز والمعاناة، تمكنت عائلته من جمع 3000 دولار لدفع الفدية المطلوبة لإطلاق سراحه. لكن خروجه من المخزن لم يكن نهاية المأساة. وجد نفسه وحيدًا بلا مأوى، يواجه عنصرية قاسية وظروفًا معيشية مروعة.

الرحلة إلى البحر: قارب النجاة أو الموت

برغم كل المعاناة، ظل فريد متمسكًا بأمله في الوصول إلى أوروبا. تمكن من جمع المزيد من المال ودفعه للمهربين، الذين وضعوه على متن قارب مكتظ بالمهاجرين متجه نحو إيطاليا. كان القارب مليئًا بالنساء والأطفال، ورغم مخاطر الإبحار في قارب متهالك، لم يكن لديهم خيار آخر.

“كل لحظة على القارب كانت مخيفة. كنا نشعر بالجوع والعطش، والخوف من الغرق كان يرافقنا طوال الوقت،” يقول فريد.

وسط البحر، بدأت المياه تتسرب إلى القارب، وبدأ الوقود ينفد. الموقف كان يزداد سوءًا حتى وصلت سفينة الإنقاذ التابعة لمنظمة “سي واتش”، التي أنقذت المهاجرين وأوصلتهم إلى بر الأمان.

الوصول إلى إيطاليا: بداية جديدة

بعد رحلة طويلة مليئة بالمخاطر، وصل فريد إلى إيطاليا، حيث استقبلته السلطات الإيطالية والمنظمات الإنسانية. كان واحدًا من بين مجموعة من القُصّر الذين تمكنوا من النجاة. يقول فريد: “شعرت بالأمان لأول مرة منذ سنوات. على الرغم من أنني تركت كل شيء خلفي، إلا أنني الآن أملك فرصة لبناء حياة جديدة.”

يحلم فريد الآن بالدراسة والعمل لتحقيق مستقبل أفضل، ويقول: “ما مررت به كان كابوسًا، لكنني أؤمن أن الغد يمكن أن يكون أفضل.”

الجثث المجهولة: مأساة الصحراء الليبية المستمرة

حتى يومنا هذا، لا تزال فرق الأمن والإنقاذ في ليبيا تعثر على جثت مهاجرين مجهولي الهوية متناثرة في الصحراء الليبية الشاسعة. تلك الجثت تروي قصصًا مأساوية عن مهاجرين لقوا حتفهم عطشًا وجوعًا أو بسبب الظروف القاسية التي واجهوها أثناء رحلتهم عبر هذه الأرض القاحلة.

في إحدى عمليات البحث الأخيرة بالقرب من سبها، عُثر على جثت 15 مهاجرًا، بينهم نساء وأطفال، قضوا بسبب نفاد الماء والطعام أثناء محاولتهم عبور الصحراء. يقول أحد أفراد فرق الإنقاذ: “كلما خرجنا في مهمة، نجد المزيد من الجثت. الله وحده يعلم كم من المهاجرين لم نعثر عليهم بعد، وكم من القصص المأساوية دفنتها الرمال.

الجثت التي تُكتشف غالبًا ما تكون في حالة تحلل شديد بسبب الحرارة المرتفعة، مما يصعّب التعرف عليها أو إعادة رفاتها إلى عائلاتها. بعض الجثت تظل في الصحراء لسنوات قبل أن تعثر عليها فرق الإنقاذ، فيما تختفي أخرى للأبد، وكأن الرمال قد ابتلعتها.

تصريح خاص لصحيفة فسانيا: تجارة البشر عبر الصحراء من غرب أفريقيا إلى أوروبا. اعتراف مهرب نادم.

في مقابلة حصرية مع صحيفة “فسانيا” كشف أحد المتهمين المحتجزين في سجون باماكو منذ عام 2018 عن تفاصيل مثيرة حول شبكات تهريب البشر التي كان جزءًا منها. المتهم، الذي يقضي عقوبة بالسجن لمدة 30 عامًا بسبب تورطه في وفاة أحد المهاجرين، قدّم صورة واضحة عن كيفية عمل هذه الشبكات، معبرًا عن ندمه العميق على الأذى الذي تسبب فيه للمهاجرين وعائلاتهم.

نشاطه في ليبيا والجزائر

 أوضح المتهم أنه بدأ العمل في تهريب البشر منذ أوائل الألفينات في ليبيا. كان ينسق مع مهاجرين من دول غرب أفريقيا، مثل مالي والسنغال وغانا ونيجيريا، ويوفر لهم وسائل النقل عبر الأراضي الليبية بالتعاون مع مهربين محليين. وأضاف: “عملت في ليبيا لفترة طويلة، لكنني غادرت في عام 2007 عندما شعرت بالخطر بسبب تضييق السلطات.”

بعد خروجه من ليبيا، انتقل إلى الجزائر واستمر في نفس النشاط. كان ينسق مع مهربين في الجزائر العاصمة، حيث ساعد المهاجرين في الوصول إلى أوروبا عبر البحر أو التنقل إلى مناطق أخرى داخل الجزائر. ومع ذلك، اضطر لمغادرة الجزائر أيضًا في عام 2010 بعد تضييق السلطات، ليعود إلى مالي ويواصل عمله.

آلية العمل والتنسيق

 كشف المتهم أن شبكات التهريب تعتمد بشكل كبير على التنسيق مع أصحاب السيارات الذين يتولون نقل المهاجرين من مدينة تمبكتو إلى الصحراء الجزائرية. يتم إرسال الأموال من أهالي المهاجرين عبر خدمات مالية مثل “أورانج موني” حيث يحتفظ المهربون بالأموال لضمان تنفيذ الترتيبات اللوجستية.

وأضاف: “المهاجرون لا يحملون أموالًا نقدية أو مقتنيات ثمينة معهم بسبب خطر التعرض لقطاع الطرق. بدلاً من ذلك، يتركون هواتفهم وأجهزتهم الشخصية مع المهربين لضمان سلامتها. البعض يحمل أوراقًا مكتوبة عليها أرقامنا للتواصل عند الحاجة.”

وأوضح أن الرحلة تبدأ من تمبكتو، التي تُعد نقطة تجمع رئيسية للمهاجرين نظرًا لقربها من الحدود الجزائرية. يتم نقل المهاجرين عبر شاحنات بطريقة سرية لتجنب اكتشافهم من قبل السلطات الأمنية. بعضهم يُترك في مناطق حدودية قاحلة بين مالي والجزائر، بينما يتم نقل آخرين إلى مناطق داخل الجزائر مثل “برج باجي مختار”.

المخاطر والتحديات.

 أشار المتهم إلى أن الرحلات محفوفة بالمخاطر. “الكثير من المهاجرين فقدوا حياتهم في الصحراء بسبب نقص الطعام والماء أو بسبب الظروف القاسية مثل البرد القارس ليلاً والحرارة الحارقة نهارًا. البعض الآخر غرق في البحر أثناء محاولته العبور إلى أوروبا.”

سبب اعتقاله وندمه

تم القبض على المتهم في مالي بعد أن رفْع أهل شاب توفي في الصحراء قضية ضده. كان رقم هاتفه ضمن الأرقام التي تواصلوا معها، مما أدى إلى اعتقاله وسجنه منذ عام 2018. يقول: “أنا الآن في السجن، ولا أعرف ما هو مصيري. أشعر بندم كبير على ما فعلته. كنا نظن أننا نساعد هؤلاء الشباب لتحقيق أحلامهم في أوروبا، لكن الكثير منهم ضاعوا، والبعض الآخر أصبحوا ضحايا لتجار البشر والنصابين.”

وأضاف المتهم بصوت مفعم بالأسى: “لا تفارقني نظرات الضحايا الذين توفوا بسبب هذه الرحلات. كل ليلة، يزورونني في أحلامي واحدًا تلو الآخر. لا أكاد أنام من ثقل الذكريات. أراني عاجزًا أمام ما تسببنا فيه، وكأن أرواحهم تطالبني بالعدالة. الندم ينهش قلبي يومًا بعد يوم.”

رسالة للتحذير: تُبرز هذه الاعترافات المآسي التي تسببها شبكات تهريب البشر، حيث يتم استغلال أحلام الشباب لتحقيق أرباح مادية، مما يؤدي إلى كوارث إنسانية في الصحارى والبحار. قصته تدعو إلى محاربة هذه الظاهرة وزيادة الوعي بمخاطر الهجرة غير الشرعية. كما أنها تذكرنا بالثمن الباهظ الذي يدفعه الضحايا والمهربون على حد سواء.

تصريحات المواطنين الليبيين: أصوات تطالب بإنهاء معاناة المهاجرين.

في إطار تسليط الضوء على أزمة تهريب البشر ومعاناة المهاجرين في ليبيا، استمعت صحيفة “فسانيا” إلى آراء مجموعة من المواطنين الليبيين الذين يعايشون هذه الأزمة عن قرب، معبرين عن مواقفهم المختلفة تجاه الظاهرة وتأثيرها على المجتمع الليبي.

ليلى، معلمة: “أرى المهاجرين يوميًا في الطرقات، مشهدهم محزن للغاية. يتنقلون بحثًا عن أمل في حياة كريمة، لكنهم غالبًا ما يُتركون لمصير مجهول. نحن بحاجة إلى حلول دولية جادة تضع حدًا لهذه المأساة الإنسانية التي نشهدها كل يوم.”

علي، “التجارة بالبشر هنا ليست مخفية، إنها جريمة تُدار علنًا في بعض المناطق. الشبكات التي تقوم بهذا العمل معروفة، ومع ذلك تستمر دون رادع. هذا الوضع خطير ويجب أن يتوقف فورًا.”

فاطمة، طالبة جامعية “المهاجرون يعيشون ظروفًا غير إنسانية على الإطلاق، سواء في مراكز الاحتجاز أو أثناء محاولتهم عبور البحر. نحن كليبيين يجب أن نكون جزءًا من الحل وليس من المشكلة، لأننا نرى المعاناة بأعيننا لا يمكنني أن أنسى صورهم عبر مواقع التواصل التي دائماً مايتم تسريبها من هواتف الشبكات التي تقوم بتعديبهم.”

يوسف مواطن من القره بولي ، “قال إنه من المحزن أن تصبح ليبيا مكانًا لعبور الموت، حيث يتعرض المهاجرون للظروف القاسية، سواء في الصحراء أو أثناء محاولة عبور البحر. نحن بحاجة إلى تنظيم أفضل وضبط الحدود، لمنع هذه الكوارث المتكررة.”

محمد أحد الأطباء في مستشفى غات “أعالج المهاجرين في المستشفيات، وأرى حالاتهم المأساوية: الجفاف، سوء التغذية، والإصابات الناجمة عن العنف أو الحوادث. هذا الوضع يفطر القلب. يجب أن يتحرك العالم لإنقاذهم وإنهاء هذه الكارثة الإنسانية.”

رسالة قوية من الليبيين

تصريحات المواطنين تعكس مدى تأثر الشعب الليبي بالأزمة الإنسانية المرتبطة بتهريب البشر. هم يطالبون بحلول جذرية ومبادرات محلية ودولية لوقف هذه الجرائم التي تنال من كرامة الإنسان. كما تشير آراؤهم إلى أهمية التعاون بين ليبيا والمجتمع الدولي لتنظيم الهجرة وحماية المهاجرين من الوقوع ضحايا للاستغلال والمعاناة.

“تفكيك شبكة تهريب كبرى: الأمن الليبي ينقذ مئات المهاجرين من جحيم الاتجار بالبشر”.

في بيان رسمي صدر عن الأجهزة الأمنية الليبية في سبتمبر 2024، أعلنت السلطات عن تفكيك شبكة كبيرة للاتجار بالبشر في بلدية الشويرف، حيث تم تحرير مئات المهاجرين الذين كانوا محتجزين في ظروف غير إنسانية. وأوضح البيان أن المهاجرين تعرضوا للتعذيب الجسدي والنفسي من قبل الشبكة التي كانت تبتز ذويهم لدفع فدى مالية كبيرة. كما أشار البيان إلى اعتقال عدد من أفراد الشبكة وتوجيه تُهَم تشمل القتل وحجز الحرية والتعذيب.

وأضاف البيان: “نحن نحاول بأقصى ما لدينا من إمكانيات مواجهة شبكات التهريب، لكن الدعم الذي تتلقاه هذه الشبكات من جماعات مسلحة يجعل مهمتنا أكثر صعوبة.” وأكد البيان على أهمية التعاون الدولي في مواجهة هذه الظاهرة، مشيرًا إلى أن تجديد مجلس الأمن لتفويض الدول الأعضاء بمكافحة الهجرة غير الشرعية في ليبيا يساعد في الحد من نشاط شبكات التهريب، لكنه يتطلب تعاونًا دوليًا أكبر لضمان حماية المهاجرين وضمان حقوقهم الإنسانية.

جهود المنظمات الحقوقية والإنسانية الدولية

المنظمة الدولية للهجرة (IOM):

قدمت المساعدة لأكثر من 80,000 مهاجر عبر برنامج “العودة الطوعية الإنسانية”. واصلت المنظمة تقديم خدماتها، بما في ذلك الغذاء والرعاية الطبية للمهاجرين العالقين.

مفوضية حقوق الإنسان:

أكدت المفوضية على أهمية احترام حقوق الإنسان لتعزيز الاستقرار. في 2024، طالبت بتعزيز الحريات الأساسية وضمان المساءلة عن الانتهاكات الجسيمة

وفي الختام:

بين أمل المهاجرين في حياة كريمة ومخاطر الصحراء والبحر، تتكشف مآسٍ إنسانية تلامس القلوب. ليبيا، التي أصبحت معبرًا رئيسيًا للهجرة غير الشرعية، تجد نفسها في مواجهة تحديات تفوق طاقتها، حيث تتشابك الأزمات الإنسانية مع التحديات الأمنية.

رغم الجهود التي تبذلها السلطات الليبية والمنظمات الدولية، فإن مكافحة شبكات التهريب وضمان حقوق المهاجرين تحتاج إلى تعاون عالمي حقيقي. يبقى الحل في معالجة جذور الأزمة، من خلال دعم التنمية في بلدان المهاجرين، وتقديم حلول قانونية وآمنة للهجرة، وإيجاد ممرات إنسانية تحفظ أرواح الباحثين عن الأمل.

في النهاية، لا يمكن تجاهل مأساة المهاجرين الذين يدفعون أثمانًا باهظة لتحقيق أحلامهم. إن تسليط الضوء على هذه القضايا ومعالجة أسبابها هي مسؤولية الجميع، لتكون قصص الموت في الصحراء والبحر مجرد ماضٍ مؤلم، لا يتكرر.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :