كتب / حسن المغربي مدير تحرير مجلة رؤى الثقافية
وكان قائد الدور صالح الأطيوش من الزعماء الرافضين لجميع الاتفاقيات بين السنوسية والحكومة الإيطالية، لأنه كان يرى أن هذه الاتفاقيات تسعى إلى إنهاء المقاومة في برقة، ومن أجل ذلك تعرض للاعتقال من قبل الحكومة السنوسية، وكاد يحكم عليه بالإعدام لولا تدخل رجال قبيلته الذين قاموا بإخراجه من المعتقل هو وزميله المجاهد الفضيل المهشهش14، ثم تطرق الباحث في نهاية الفصل الأول إلى الحديث عن علاقة عمر المختار بالسيد المهدي السنوسي، نسب من خلاله بعض الأقوال إلى المرويات المتواترة في تراث الطريقة السنوسية دون الإشارة إلى مصدرها! وهذا غير مقبول في دراسة التاريخ، فالتراث الشفهيoral tradition رغم تضاؤل استعماله منذ أن نشأ التاريخ الأكاديمي وأصبح التركيز يقتصر على الكلمة المدونة بدلا من المنطوقة، فإنه يجب أن يستعمل بعد نقده وغربلته جنبا إلى جنب مع المصادر الأصلية، فمن السذاجة الافتراض بأن الشهادة الشفهية وحدها تمثل الخلاصة الصافية لتجربة الماضي على حد قول جون توش15.. وفي أحيان كثيرة يغفل الباحث ذكرالمصادر أو الإشارة إليها، مثال ذلك، حينما تحدث عن عدد الزوايا السنوسية عام وفاة السيد المهدي 1902م، وبعدئذ نراه يتخبط هنا وهناك، أحيانا يذكر وثيقة تنص على تعيين أحد المجاهدين ليس لها علاقة بالموضوع،ثم يعود إلى عمر المختار، ويقتبس فقرة ينسبها إلى الرحالة جورج ريمون دون ذكر عنوان الكتاب ورقم الصفحة في الهامش، وحينما بحثتُ عن الفقرةالمقتبسة في ترجمة الدكتور الوافي، وجدتُ إضافات كثيرة بها، مع أن الباحث يضعها بين قوسي الاقتباس، والأمانة العلمية تتطلب بداهة وضع الاقتباس كما هو، فالنص المُقتبس (كما يقول الوافي) هو شيء مقدس في علم التاريخ 16.وإليكم الفقرة التي استخدمها الباحث للتدليل على ثقافة شيوخ السنوسية ” لقد تحدثت طويلا مع بعضهم، وبدا لي عالمين إلى حد كبير بالنقاط الأساسية في السياسة الأوروبية، مثل الحلف الثلاثي، والوفاق الثلاثي. لقد كانوا علماء في تاريخهم وتاريخ البلاد العربية والجغرافيا والدين، ولكنهم كانوا مشغولين بالسياسة العربية، وفيما عدا ذلك فهم أناس مثقفون ويمقتون السلوكيات الخرافية للطوائف الأخرى”17..في حين الفقرة الأصلية الموجودة في كتاب جورج ريمون ترجمة الوافي ما يلي:”لقد حكيتُ طويلا مع عدد كبير من هؤلاء المشايخ والأعيان (يقصد مشايخ السنوسية وأعيان مدينة بنغازي)، فبدوا لي على إلمام وافٍ، وعلى اطلاع كبير على تيارات السياسة الأوروبية الحالية، وإن كنتُ قد لاحظت عليهم اهتمامهم الخاص بكل ما له علاقة بمصائر البلدان العربية وعلى الخصوص ما يمس مستقبل ليبيا”18، ثم يختم الحبوش الفصل الأول بالحديث عن وظيفة شيخ الزاوية، مؤكدا فيه ” أن عمر المختار لم يكن معلما للصبيان في فترة الحرب الإيطالية الليبية على الإطلاق، بل كان (شيخ زاوية)19″، ونحن بدورنا نستغرب هذا القول، فبغض النظر عن أسلوب التعميم دون التخصيص في الكتابة التاريخية، فإن من مهام شيخ الزاوية كما جاء لدى العديد من المؤرخين هو التعليم أو الإشراف عليه، فقد ذكر الدكتور نقولا زيادة عنها قائلا ” شيخ الزاوية هو صاحب الحل والعقد فيها، فهو الذي يعلم أو يشرف على التعليم”20وذكر آخرون بعض من مهام شيخ الزاوية مثل قيادة رجال القبيلة في الجهاد، والإشراف على حصاد الزرع وخطبة يوم الجمعة، والمساعدة على الوعظ والتعليم، ناهيك، على أن السيد عمر المختار نفسه لم تقتصر دراسته “على العلوم الدينية فحسب، بل تعدتها إلى تعلم بعض المهارات والحرف اليدوية كالنجارة والبناء والزراعة”21 وبالتالي، فلو أظهر لنا المخرج العالمي مصطفى العقاد شيخنا المختار وهويحرث الأرض، لما انزعج أحد من الصورة التي يقدمها، إذ أن مقتضيات الدراما تتطلب في غالب الأحيان اختيار مهنة أقرب إلى الإنسانية، ولا شك، أن مهنة تعليم الصبيان التي نالت رضا العقاد تُعد الخيار الأمثل في هذا الصدد، وقد جاء فيلم أسد الصحراء تحفة فنية عالية، ولم يكن هذا العمل المائز بأي حال من الأحوال موجها سياسيا كما زعم الباحث في مقدمة الكتاب، حتى لو كان من إنتاج نظام سبتمبر، وفي الحقيقة (وهذا ليس دفاعا عن حقبة سبتمبر) إن فيلميْ عمر المختار والرسالة من أهم الأعمال الفنية التي خلّفهاالنظام السابق دون منازع. وفي الفصل الثاني، يحاول الباحث الحديث عن الغزو الإيطالي لليبيا، بدءا من إعلان الحرب على تركيا إلى توقيع صلح أوشي لوزان، وبداية المقاومة الليبية المسلحة التي أعلنها السيد أحمد الشريف، ودور السنوسية في الجهاد، ثم تحدث عن ترجمة إبراهيم بن عامر لكتاب غراسياني (برقة الهادئة) ووصفها ب(أكبر عملية عبث في كتاب تاريخي) وقد نوه بالترجمة الثانية المسماة (برقة المهدأة) للسيد محمد الفرجاني، وبعدئذ تطرق إلى رحيل السيد إدريس إلى مصر من أجل العلاج، وتعرضه للاغتيال بالسم مرتين، وفي هذه الأثناءأثار قضية علاقة عمر المختار بالسنوسية في (أوهام كُتاب)، حيث نفى ما ذكره بعض كتاب حقبة سبتمبر (على حد قوله) فيما يتصل بفرضية هجر المختار للسيد إدريس السنوسي أثناء الاتفاقيات بين السنوسية والإيطاليين، مؤكدا غير مرة على مناصرة عمر المختار للسنوسيين على الدوام22 مع أن عمر المختار رغم ارتباطه الوثيق بالدعوة السنوسية منذ بداية حياته، إلا أنه ” لم يكن أداة طيعة في يد من يرون أنفسهم رؤساء له”23 وخير دليل في ذلك المفاوضات التي حدثت عام 1929م التي قبلها حسن الرضا وخرج مع أتباعه وكونوا معسكرا تابعا للإيطاليين قرب مراوة، أطلق عليه المجاهدون اسم (دور الدقيق) إشارة إلى أن هذا الدور لا عمل له إلا تلقي المرتبات والتموين من الإيطاليين، وفي المقابل أعلن المختار في جريدتي الأخبار والمقطم المصريتين استئناف الجهاد في برقة، ووقع البيان باسم (قائد القوات الوطنية عمرالمختار) وهذا يؤكد تنصل شيخ الشهداء من التبية الاسمية للسنوسية التي كانت موجودة قبل تاريخ البيان24وإلى جانب ذلك، يؤخذ على الباحث في هذا الفصل عدة أشياء منها: عدم الالتزام بالتسلسل التاريخي وشرح الأحداث التاريخية بموضوعية خالية من التحيز للحركة السنوسية على وجه الخصوص، غياب الأمانة العلمية بشأن الاقتباس،تكرار ما جاء به الكتاب السابقون، استخدام وثائق ليست لها علاقة بالأحداث التي يكتب عنها، والأمر الأخير،وهو الأهم، محاولة الحط من قيمة جميع الكتب المطبوعة في العهد السابق،وفيما يلي سأتحدث عن هذه المآخذ بشيء من التفصيل.
يطالعنا الباحث منذ بداية الفصل الثاني بالحديث عن نبوءة الشيخ السنوسي المتعلقة بالغزو الإيطالي لليبيا دون الإشارة إلى المراجع، علما بأن هذه الحادثة ليست من النبوءات25، وقد ذكرها أكثر من كاتب أمثال السيد أحمد الشريف، ومحمد شكري وغيرهما، ولم تأتِ بالطريقة التي ذكرها الباحث، كل ما في الأمر، أن هناك حديثا دار بين السنوسي الكبير والشيخ محمد بللو الدرناوي عام 1854م، توقع فيه (ابن السنوسي) إغارةالنابلطان (أهل نابولي) على طرابلس الغرب وأخذها مرة ثالثة، وبغض النظر عن صحة الرواية،فإن الباحث زاد فيها وتفنن في طرحها على طريقة القصاص، كل ذلك من أجل المغالاة والتمجيد وإظهار السنوسي الكبير كما لو أنه أحد الأنبياء، وإليكم الرواية كما جاءت في كتابه: “فقد تواتر بين الناس عامة، وبين منتسبي الطريقة السنوسية خاصة حديث السنوسي الكبير الذي وجهه لتلاميذه غير مرة، قبل هذا الغزو بسبعين عاما، محذرا من احتلال (النابلتان) الذي يوشك أن يحدث لهذه البلاد، لقد أخبر السنوسي الكبير أتباعه فور استكماله لبناء زاوية البيضاء سنة 1843م أن الغزاة من النابلتان سيربطون بغالهم فيها. كما وجه السنوسي إلى أتباعه في مناسبة أخرى سؤالا: ماذا أعددتم ليوم غزو النابلتان لبلادكم؟ فرد أحد الحاضرين قائلا: أعددنا لهم هذا. وكان ممسكا بجراب من ملح البارود في يده، فرد ابن السنوسي قائلا: هيهات هذا لا يكفي”26.الأمر المضحك حقا، أسلوب التعميم في مثل (فقد تواتر بين الناس عامة) فأي تواتر الذي يتحدث عنه الباحث؟ وأغلب الناس لا يعلم عن السنوسي الكبير إلا النزر اليسير. ومما هو جدير بالملاحظة جهل الباحث لمناهج البحث والكتابة التاريخية عموما، ففي جميع فصول الكتاب لم يلتزم بطرق التوثيق العلمي، ومن ضمنها الالتزام بالنص المقتبس، ولا أعلم في حقيقة الأمر، هل هذا يرجع إلى جهله بأساليب التوثيق، أم أنه تعمد ذلك من أجل التدليس والتزوير، وعلى أية حال، إليكم أمثلة مختارة من بعض فصول الكتاب، سنذكر الفقرة الأصلية أولا، ثم الفقرة المقتبسة، وبعدئذ سترى أيها القارئ بنفسك تصرف الباحث في النصوص المقتبسة إما بالتحوير أو بالحذف والزيادة:
يقول أنجيلوا ديل بوكا:”وخلال أبريل ومايو من سنة 1929م طورت سرا المفاوضات بين زعماء العصاة ووفد من الأعيان الموالين للحكومة” 27 اقتباس الباحث:” وخلال أبريل ومايو طورت المفاوضات بين المختار ووفد من الأعيان الموالين للحكومة”28 يذكر اتيلوتروتسي:” إن حادث غوط الساس قد رفع إلى منزلة الإعجاب والعرفان اسم موقع اقترن حتى ذلك الوقت بالاجتماع المهين الذي عقده وزير إيطالي قبل العهد الفاشستي مع زعيم السنوسية” 29 اقتباس الباحث:”هذا الحادث قد رفع إلى منزلة الإعجاب والعرفان (اسم موقع) اقترن حتى ذلك الوقت بالاجتماع المهين الذي عقده وزير المستعمرات الإيطالية مع زعيم السنوسية إدريس”30 يذكر محمد طيب الأشهب على لسان عمر المختار: “ثقوا أني لم أكن لقمة طائبة يسهل بلعها على من يريد، ومهما حاول أحد أن يغير من عقيدتي ورأيي واتجاهي، فإن الله سيخيبه، ومن (طياح سعد) إيطاليا ورسلها هو جهلها بالحقيقة، وأنا لم أكن من الجاهلين والموتورين فأدعي أنني أقدر أعمل شيئا في برقة، ولست من المغرورين الذين يركبون رؤوسهم ويدعون أنهم يستطيعون أن ينصحوا الأهالي بالاستسلام، إنني أعيذ نفسي من أن أكون في يوم من الأيام مطية للعدو وأذنابه”31 اقتباس الباحث: “ثقوا أنني لن أكون لقمة سائغة يسهل بلعها على من يريد، إنني أعيذ نفسي من أن أكون في يوم من الأيام مطية للعدو وأذنابه”32 يذكرالجنرال غرسياني على لسان عمر المختار: “لا تدعوني عاصيا متمردا لأنني لم أكن قط قبل اليوم خاضعا لسلطة الحكومة بل إنني بالأحرى ناضلت دائما، إذ إن الدين يوصيني بذلك” 33 اقتباس الباحث:”لا تلقبوني بالعاصي، لأنه لم يسبق لي أن استسلمت للحكومة من قبل، فأنا لم أتوقف عن محاربتها لأن ديني يفرض علي ذلك “34 يقول اتيلوتروتسي” لقد توقعنا حركة الثورة التي كانت تعد لها المقاومة بأساليب الختل” 35 اقتباس الباحث:” لقد توقعنا حركة الثورة التي كانت تعد لها السنوسية بأساليب الختل”36 كما هو واضح في الفقرات السابقة يوجد حذف وتحوير وزيادة مثل (إدريس) و (المختار) و (السنوسية) وغيرها، كان يجب على الباحث، والحالة هذه، أن يذكر في الهامش كلمة (بتصرف) مع عدم وضع الفقرات التي تصرف فيها بين قوسي الاقتباس لأنه؛لا ينبغي له التصرف في النص المقتبس، ومن ثم، ينسب ما جاء فيه إلى صاحب العمل الأصلي 37، حتى لو رأى أن النص المقتبس يحتاج إلى معالجة لغوية كما في كلمة (طائبة) التي حوّلها إلى (سائغة) في نص الأشهب، ولم يقف الباحث عند هذا الحد وإنما بتر نص الأشهب دون أن يستعمل القوسين المُركنّين وهي علامة البتر(…) التي يُستكمل بها سياق النص المقتبس، وهناك نماذج أخرى من هذا القبيل تصرف فيها الباحث كثيرا، لدرجة أنه كان يأخذ من هامش الترجمة وينسبها إلى صاحب العمل الأصلي،مثال ذلك حينما جاء بتعليق للدكتور محمود علي التائب مترجم كتاب (الإيطاليون في ليبيا) على أنه من كلام أنجيلوا ديل بوكا،38أو حينما جاء بعبارات للصحافي الإيطالي (الدو كيرييتشي)كتب في الهامش جملة من “ترجمة مؤرخ ليبي” دون أن يذكر اسم الكاتب وبيانات المطبوعة التي نقل عنها39 ولا يسعنا المجال –للأسف- ذكر أمثلة عديدة في هذا السياق. وبالنسبة لموضوع تكرار ما جاء به الكتاب السابقون، يُقصد به كلام الباحث حول ترجمة كتاب برقة الهادئة للسيد إبراهيم بن عامر، وكلامه في الفصل الأخير حول كتاب عمر طالمختار للشيخ طاهر الزاوي أننا نقول: إن الحديث عن العيوب الموجودة في هذين العملين فصل فيه القول منذ زمن، ولا فائدة من تكرار الحديث عما ورد فيهما من أخطاء، ألا يكفي القراء ما قام به محمد الفرجاني في برقة المهدأة، وردود الشيخ العيساوي في (رفع الستار عما جاء في كتاب عمر المختار)؟. ومن المآخذ الموجودة أيضا في الفصل الثاني على وجه الخصوص الاستعمال الرديء للوثائق التاريخية، فما الجدوى من ذكر وثائق تتعلق بسرقة أبقار وتقسيم أغنام، وكثرة فئران أثناء الحديث عن دور عمر المختار وقيادة الجهاد في برقة! فالاستعمال العشوائي للوثائق ربما يؤدي إلى اختلاط المعلومات بغير نظام، والخطوة الأولى في تقييم الوثائق ليست في اختبار أصالتها فحسب، وإنما في مدى ارتباطها وتأثيرها في سياق الأحداث التاريخية،فدراسة التاريخ مسؤولية كبيرة ينبغي على باحث التاريخ التصدي لها بجدارة. أما فيما يخص طعن الباحث في الكتب المنشورة في حقبة سبتمبر، فإننا نلاحظ د كبير من المراجع التي اعتمد على طُبعت وانتشرت في عهد القذافي بما فيها ترجمة الفرجاني، وكتاب ديل بوكا الذي يعد أكبر مرجع (من حيث الاقتباس) نقل عنهالباحث، وهو من منشورات مركز جهاد الليبيين عام 1995م. ولا يفوتنا قبل أن نختم حديثنا عن الفصل الثاني تسجيل ملاحظة بسيطة عن الحكاية التي أثارها الباحث المتعلقة بأكل الليبيين للحوم البشر أثناء الاحتلال الإيطالي!فلا يمكن لأي كاتب في التاريخ ذكر رواية لا يوجد لها صدى بالمصادر التاريخية الموثوقة أو الموروث الشعبي بالمجتمع، ونحن نستغرب كيف أخذ الباحث برواية مجهولة أثبتها (دون وثائق) بعض مؤرخي الحركة السنوسية أمثال شكري والعيساوي من أجل تبرير معاهدات الصلح التي أبرمها السنوسيون مع الطليان40ونزيد استغرابا، حينما يقبل مرة ثانيةرواية ذكرها أ.سالم الكبتي عن السيد حسين مازق
للقراءة تتمة ترقبوها