عبدالمنعم الجهيمي
انخفاض معدل الانتهاكات التي تطال الصحفيين لا يعد مؤشرا إيجابيا كما يعتقد أغلبنا لأن هذا الانخفاض لم يكن بسبب التزام السلطات والمجموعات المتنفذة بعدم انتهاك الصحافة والصحفيين، ولكنه بسبب أن الكثير من الصحفيين صاروا يراقبون أنفسهم ويبتعدون عن المواضيع التي ستجر عليهم غضب السلطات الحاكمة.
الصحفيين اللي عايشين بره البلاد عندهم سقف عالي جدا، ولكن أغلبهم (مش الكل طبعا) لا يستخدم هذا السقف فتجده يدور في فلك تيار سياسي ما، وطالق لسانه على ما يخالفه من التيارات، والصحفيين اللي داخل البلاد نوعين، نوع يمارس حريته وانتقاده ضد طرف سياسي لا يسيطر في منطقته، وبهذا يكون شايف إنه أموره صح، وقد تكون صح على فكرة مش شرط إنه غلط.
ونوع ثاني وهو الأكثر شيوعا اتجه فيه الصحفيين للمواضيع الخدمية العادية وملاحقة إنجازات الإدارات الخدمية في حل هذه المواضيع، غير متابعة ورش العمل والجلسات الحوارية والمهرجانات وحفلات المعايدة والإفطار الجماعي والقصص الإنسانية ومشاريع الشباب والبنايات والآثار والعادات والتقاليد، وهذا على فكرة ليس منقصة بل جانب مهم جدا في الصحافة، وأنا أكثر من يؤيد هذا التفكير القائم على الابتعاد عن السلطة الحاكمة أو التركيز على الخدمات وهموم الناس الحياتية.
ولو كنا أكثر واقعية نستطيع القول بأن الساسة نجحوا في تهميش اهتمام الناس بشؤونهم، وبالتالي عدم اهتمام الناس بأخبارهم، وهو ما يدفع الصحفي من النوع الثاني إلى تغطيات أكثر قربا من الناس، لنعطي مثالا لعله يقرب الصورة، خبر مثلا عن لقاء يجمع المشري وعقيلة في مصر في إطار المساعي التي لا تنتهي للتقريب بينهما، هذا الخبر لن يحظى باهتمام شخص يريد معرفة ثمن البنزين اليوم أو لماذا لم تعمل شركة النظافة، أو نزول مرتبات أو توفر سيولة من عدمها في مصرفه.
ولعل جولة على أبرز وسائل التواصل المجتمعية في ليبيا وهو فيسبوك وعلى صفحات الصحفيين ومن في حكمهم، ستجدها تعج بالتنظير وكلام الحكماء والفلاسفة أو الأخبار الطريفة العالمية أو أخبار مدنهم ومواطنيهم المباشرة، وستجد أقل التفاعلات تلك التي تتابع أخبار سياسية أو عسكرية صارت مملة مع الوقت وتزاحم مشاغل الحياة اليومية.
ينتصر لهذه الصورة كل من يرى أن الحديث في السياسة والحروب أصبح حديثا خارج دائرة تأثير الفرد الذي يتحدث عنها وإن كان صحفيا، فتتعزز هنا الرغبة في الاتجاه للصحافة الأكثر تأثيرا أو التي تحظى بقرب أكثر من الناس، وبهذا يقل عدد من يتحدثون وينقلون أخبار السياسة وينتقدونها وبالتالي تقل نسبة الانتهاكات التي تطال الصحافة والصحفيين.
في فترات حرجة من الفترات التي مرت بها مدينتنا ظهر صحفيون بفسانيا حاولوا أن يلمسوا ملفات تهم المواطن، ولكنها كانت في ذات الوقت تمس عصابات ومجرمين، فكان مصيرهم القتل أو التهديد، فكان شهيد الكلمة موسى عبدالكريم رحمة الله عليه، كان مصيره بمثابة رسالة لكل الصحفيين بأن لا يتطرقوا لمواضيع وملفات الفساد حتى لا يكون مصيرهم كمصيره، ويبدو أن الرسالة نجحت، فلم يعد أغلب الصحفيين يحفلون أو يهتمون بالتحقيقات الاستقصائية أو متابعة الملفات الحساسة والتي يساهم كشفها في إصلاح المجتمع ومساعدة الناس في محاربة الإجرام.
قبل ذلك بسنوات قضى الزميل عبدالله بن نزهه في تغطيته للحرب التي كانت تدور في المدينة، رحمة الله عليه، وكأن من قتله كان لا يريد للصحافة أن تنقل بشاعة وخبث ووحشية حروبنا، وقد كان، فلم نشهد بعد ذلك الصحفيين وهم يسعون لتغطية الحرب وتبيان شرورها، رغم الحروب التي عاشتها المدينة وتاه المواطن في ملاحقة أخبارها وتفاصيلها.
لم يبق من الصحافة إلا نمط واحد تقريبا، القائم على متابعة أنشطة المؤسسات وجلساتها الحوارية وورش العمل ومشاريع الشباب والإفطار الجماعي وحفلات المعايدة، ويصعب في هذا الحال تقييم حرية الصحافة والاستبشار بانخفاض نسبة الاعتداء على الصحافة والصحفيين، فقد صار الصحفيون أكثر طواعية واختاروا الرقابة الذاتية لتجنب الاصطدام بالسلطات والمجموعات.
وأخيرا، قد يكون هذا الحل أو هذا الاختيار هو الأمثل للكثير من الصحفيين، فالصحفي في آخر المطاف ما هو إلا إنسان لا يختلف كثيرا عن غيره من ناحية متطلباته المعيشية، ولن يواجه لوحده طواحين الهواء مجازفا بحياته ورزقه ورزق عياله من أجل مجتمع قد لا يحسن حتى التضامن معه في حال وقوعه تحت طائلة انتهاكات ستطاله دونما رحمة، وفي دولة يفلت فيها الجاني من العقاب وتتعزز فيها القوانين التي قد لا تستطيع حمايته، هنا لا تستطيع لومه، بل قد ترى في قراره شيئا من الحكمة.