- تقرير : عبدالمنعم محيي الدين
تسعى عديد المكونات الاجتماعية والمنظمات المحلية والدولية والمؤسسات الليبية لتعزيز ملف عودة نازحي مرزق، الذين تواصلت أزمتهم منذ العام2019 حتى اليوم، فالصراع الذي شهدته المدينة وأدى لخروج الآلاف من سكانها أوجد معضلة يصعب حلها في الجنوب.
معضلة تتعلق بالتنمية التي توقفت في المدينة والركود الذي أصابها بسبب تعطل الكثير من المصالح الإدارية والخدمية، ومعضلة تتعلق بحياة النازحين، التي صار بعضهم يواجه أسوأ مافيها، من بين هؤلاء كانت السيدة مبروكة التي كان لها قصتها مع النزوح.
صارت العديد من تفاصيل الحياة قاتمة وموحشة لدى مبروكة الزرّوق التي تعيش يوميات النزوح منذ منتصف العام (2019) من مرزق إلى مدينة سبها مع عائلتها، إثر الحروب التي شهدتها مدينتها، وأسفرت عن نزوح أعداد كبيرة من أهالي المدينة إلى مناطق مختلفة من البلاد.
مبروكة في التاسعة والثلاثين وهي أمٌّ لأربعة أطفال، تعولهم لوحدها، مع زوجها الذي أصيب في ذات الحرب، التي تسبّبت في نزوحهم.
اليوم، وبعد ثلاثة أعوام من النزوح؛ تجد مبروكة نفسها جالسة في منزل بسيط بأحد أحياء سبها، منزلٌ لا يقِيها حرّ الصيف ولا برد الشتاء، عاشت فيه لفترات تكافح من أجل تحصيل ثمن كرائه وإطعام أطفالها وعلاج زوجها، وانتظار أية أخبار عن قرب عودتها لمدينتها، التي طال نزوحهم عنها، أكثر مما يجب.
في ركن منزوٍ بحي الجديد تقطن مبروكة منذ عام، وتعيش يوميات النزوح التي لا يفارقها فيه ذلك الحزن الذي سكن عينيها، حتى وإن لم يظهر على وجهها الباسم دوما.
“كان منزلنا جميلا” هكذا تصف مبروكة منزلها الذي علمت أنّه احترق في تلك الحرب، بُعيْد خروجهم منه للنجاة بأنفسهم.
منزلنا بمرزق بنيتهُ وزوجي منذ سنين طويلة، جمعنا فيها رواتبه ورواتبي، ومكثنا أربعة سنوات نبنيه سويّا، حتى العام 2007 عندما انتقلنا للعيش فيه.
لازلتُ أذكر كلَّ تفاصيل أوّل أيّامي في هذا المنزل، لم أكن أدرك أن ذاكرة تلك الأيام لاتزال حيّة في ذهني؛ حتى نزحتُ من منزلي.
حين خرجنا في أغسطس 2019، اعتقدنا أننا سنخرج لأيام ثمّ سنعود للمنزل، لذلك لم نأخذ معنا غير بعض الملابس والحاجيات الأساسية. أذكر أني تركتُ باب منور المطبخ مواربا حتى يدخل الهواء لبقيّة المنزل، كما تركتُ مصابيح سور المنزل مُضاءة كعادتي عندما أخرج من البيت.
كانت الطريق إلى سبها طويلة موحشة، مع انتشار المسلّحين في الليل وغموض ما نسير فيه، كان علينا أن نسير مسافات طويلة من دون أن نشغّل أضواء السيّارة.
كانت قلوبنا ترتجف عند كل اِستيقاف أمني، خاصة ونحن نسمع عن العائلات التي يقع استهدافها بين الحين والآخر، ولكن مررنا بسلام من عِدّة بوّاباتٍ قبل أن نصل لأوّل منطقة مأهولة من وادي عتبة.
كان الليلُ موحشا، وكان علينا إكمال الطريق إلى سبها، فالجماعات المُتناحرة في مرزق تستطيع الوصول إلى وادي عتبة، ولها القدرة على ذلك دون وجود رادع أو قوة تمنعها.
وصلنا سبها على غير هدىً، لم نكن نعلم إلى أين سنذهب وأين سنقيم ليلتنا، كانت تلك المرة الأولى التي أزور فيها سبها منذ العام 2011، فقد كنّا نخاف القدوم إلى المدينة، بعد انتشار أخبار السطو المُسلّح والفَلَتان الأمنيّ الذي عاشته سبها سنواتٍ طويلة، اليوم نجول في شوارعها ليلا ولا نعلم ما الذي قد يواجهنا فيها.
بعد عِدة اتصالات، علمنا أن نازحي مرزق ينزلون في مبنى “أنسام الحرية” وهي مدرسة قديمة تقع وسط المدينة. توجّهنا إليها مُباشرة، وكان المنظر صعبا أمامي، عائلات كثيرة وحالة من الهلع والخوف مع استمرار أخبار الحرب ووصول أنباء من سقطوا فيها، حينها أدركتُ أن عودتنا للمنزل لن تكون قريبة.
بدأت مبروكة حياتها في سبها، بعد أن استأجرت منزلا في “حي الجديد” مكثت فيه وأطفالها، قبل أن يلتحق بهم زوجها العاجز، الذي يُعاني من إعاقة بدنيّة.
يبدأ يومها في الصّباح الباكر، فقد تعودت الخروج لإحدى الجمعيات التي توفر فرصا للعاملات في بعض الصناعات التقليدية.
تقول مبروكة إنها تتقن صناعات سَعَفية كثيرة، ولم تعتقد يوما أن هذه الصناعات ستكون أحد مصادر دخلها، لتنال بها قوت يومها وقوت عيالها وزوجها.
هنا في “جمعية البيت الأصيل للتراث الشعبي” تجتمع الكثير من النّسوة لصناعة الأواني والحاجيات السعفية، التي تشكّل مادة المعارض والمهرجانات، والتي يُقبل سكان المدينة على شرائها واقتنائها.
هذا العمل يوفر دخلا جيدا لمبروكة ومثيلاتها، حيث تقضي أكثر من 5 ساعات في التجهيز والتحضير والإنجاز، وتتكفّل الجمعية بتوفير المواد الخام للصانعات، مثل: سعف النخيل وعود العراجين والصوف.
مع منتصف النّهار، كانت تقصد محلات الخضار بسوق المدينة الرئيسي، هناك تجمع الخضار التي لا يحتاجها أصحابها، فتأخذها لمنزلها تصلح من حالها.
تقول إن هذه الخضار توفر عليها مصروفا يصل إلى 200 دينار شهريا، فلا يظل أمامها إلا شراء بعض المواد الغذائية المعلبة وأدوات التنظيف.
كانت شفقة الناس عليهم ونظرتهم لها ولأسرتها أكثر ما يؤرّق حياة مبروكة، التي تقول: كنّا في الفترة الأولى نقبل مساعدات من أهل الخير، ولكنّها مع الوقت صارت مرفقة بنظرات الشفقة التي كانت أشدّ قسوة على زوجي، الذي طلب مني رفض كل ذلك.
خاصّة بعدما صار بإمكاننا سحب مرتباتنا من مصارف سبها. إضافة لنظرات اللوم التي تلقي علينا باللائمة لأننا خرجنا من مدينتنا، وكأنه كان من اختيارنا. كنتُ ولازلتُ كل يوم أتمنى العودة لمنزلي ومدينتي، ولكن الأخبار وتطوّرات الأحداث كل يوم لا توحي بعودة قريبة.
أطفالي “علي” و “رائد” و “عُليّة” و “عبد الغفار” لا يستوعبون حتى اليوم، لماذا خرجنا من البيت دون أن نأخذ حاجياتنا، خاصة بعد أن طالت إقامتنا في سبها، وصاروا يروننا نبحث عن منازل الإيجار ونتكيف مع الأوضاع الجديدة، أصغرهم عبد الغفار الذي لم يمل سؤالي: متى نعود إلى بيتنا. ولم أمل إجابته…..قريبا!!
واجهت مبروكة وأطفالها معضلة المحافظة على البقاء في منزل للإيجار لفترة طويلة، فأصحاب المنازل لا يتعاطفون كثيرا مع النازحين، ويرون أنهم يتلقّون مساعدات من المنظمات والجمعيات المدنية المحلية والدولية، ويفكرون دوما بزيادة قيمة الإيجار والاستفادة من وجودنا في منازلهم.
والبعض الآخر، يخاف من عدم قدرتنا على دفع الإيجار بشكل منتظم، مع هذا المشهد تتعقد الأمور أمامنا، ويثقل كاهلي بأعباء أخرى، لم أكن أتوقع يوما أن أحمل كل هذا الهم.
اضطرّ للدخول في تفاوضات على كلّ شيء، أتفاوض على منزل جديد.. وعلى حاجيات وأطعمة ومرتبات، أتفاوض حتى مع أطفالي لإقناعهم بترك شيء ما أو العدول عن فكرة قد تكلف مالا أكثر، لا طاقة لي عليه.
قد أُنهِكتُ كثيرا وفاق هذا قدرتي على التحمّل، أعلم أن هذه سُنّة الحياة فيما يخصّ هموم الأسرة والأولاد، ولكنها هموم مضاعفة على امرأة نازحة، لا تملك شيئا من حطام الدنيا.
تحمل مبروكة أمتعتها في سيّارة أجرة متجهة لمنزل جديد. كان الإنهاك باديا على وجهها، وكانت يداها ترتجفان، بعد أن حملت لوحدها أوزانا مختلفة من الأمتعة، ومعاناة متجددة من يوميات النزوح.
ضحكت عندما جاءتها ابنتها “عُليّة” وهي تقول: ماما انطفوا الضي قبل لا نطلعوا!