أَغَارِيدُ من مَعْزُوفَةِ الثَّمَانينَ..

أَغَارِيدُ من مَعْزُوفَةِ الثَّمَانينَ..

بقلم :: جمعة الفاخري.

إلى صديقي الشَّاعِرِ الدُّكتور عبد المولى البغدادي ، في ربيعِ قلبِهِ الثَّمانينَ.

ما الِّذِي يَحْتَاجُهُ الشَّاعِرُ لِترميمِ الحَيَاةِ، لإعادَةِ تقويمِ الكونِ؟
عَشْرُ أَصَابِعَ من نُورٍ تُدَشِّنُ – مَوْلِدَ الحُلْمِ – أَعْرَاسَ القَصَائِدِ..
عُكَّازٌ مِنْ ضَوْءٍ يُرْسِلُهُ عُيُونًا تَجُوسُ خَلالَ الدُّرُوبِ والقُلُوبِ..
عَصَا شِعْرِيَّةٌ يُنَمِّقُ بِهَا وُجُوهَ الصَّبَاحَاتِ الدَّفِيئةِ .. يَهُشُّ بِهَا عَلَى أَحْلَامِنَا الجوعى ..
قطيعُ قصائدَ مدهشاتٍ تُنْبِتُ في يَبَابِ العُمْرِ نَخْلاً ولوزًا ورمَّانًا وخَوْخًا .. تُفَّاحًا وكرومًا.. تنمو على جَنَبَاتِهَا حقولٌ وبساتينُ، وتزدهرُ فيها مدائنُ وأمنياتٌ.
قطيعُ قصائدَ مدهشاتٍ تُزْهِرُ في خَريفِ الانكسارِ جُزُرَ أزاهيرَ.. وَمَحْمِيَّةَ أمنياتٍ باهراتٍ.
عَرَبَةُ أَحلامٍ عذارى يُمكنُها أن تُسْكِرَ الكَوْنَ شَذًا وَعَبَقًا وَأَلَقًا وَغَدَقًا..
حَفْنَةُ أَصْدِقَاءَ أَصْفِيَاءَ أَنْقِيَاءَ تُمَسِّدُ ضَحَكَاتُهُم أَفَواهَ الجِرَاحِ الفواغر..
لفيفُ محبِّينَ صادقينَ يُشْرِعُونَ قُلُوبَهُم على مَحَبَّتِهِ، يُوَارِبُونَهَا عَلى مَدَائِنِ الجَمَالِ السَّامِقَةِ في قَلْبِهِ.
حَقْلُ أُمْنِيَاتٍ أبكارٍ، وثمانونَ حلمًا نديًّا شَذِيًّا .. ثمانونَ أَمَلاً شَهِيًّا طَرِيًّا ..
ثمانونَ عامًا مُشَيَّدَةٌ على ضِفَافِ قلبِ شاعرٍ بأحلامِهِ وآلامِهِ.. بأمنياتِهِ وأُغنيَاتِهِ..


قَلْبُ الشَّاعِرِ لا يَهْدَأُ وَلا يَصْدَأُ .. قَلْبُ الشَّاعِرِ لا يَشِيخُ .. ولا يتلعْثَمُ .. كَلِمَاتُهُ لا تَتَقَادَمُ بِالتِّرْدَادِ، وَصَوْتُهُ لا يُوْهَنُ بالغناءِ، وأشعارُهُ لا تَبْطُلُ بِالإِنْشَادِ، وَمَعْزُوفَاتُهُ لا تَبِيدُ بالانثيالِ والاحتدامِ ..
إِنَّهُ يَظَلُّ يَجُوبُ الأَمْكِنَةَ وَالأَزْمِنَةَ مُوَزِّعًا عَلَى الحَيَاةِ حُبَّهُ.. عَلى النَّاسِ، والعَصَافيرِ والفراشاتِ والنَّحْلاتِ..
على الحدائقِ والحقولِ والبساتينِ ..
على شمعِ أناملِهِ تورقُ القَصَائدُ .. تصحو الشُّمُوسُ وتخصبُ الفصولُ .. تُزْهِرُ المدائنُ .. تَتَشَيَّأُ الحَيَاةُ بكلِّ من فيها، وما فيها.


المُرَوِّجُونَ للجَمَالِ والحُبِّ وَالحَيَاةِ لا يَكْبُرونَ .. لا تَشِيخُ قُلُوبُهُم .. ولا تَهْرُمُ
أَرْوَاحُهُم .. لا تَتَقَاعَدُ قُلُوبُهُم عنِ ارْتِكَابِ الحُبِّ.. واقترَافِ البَهَاءِ.. وَاقْتِنَاصِ عَرَائِسِ القَصِائدِ..
لا تتوانى سَحَائِبُ أَعْمَاقِهِم عن زَخِّ الشِّعْرِ.. وَضَخِّ أَنْهُرِ العِطْرِ..
لا تَتَوَقَّفُ نَوَافِيرُ قُلُوبِهِم عن رَشِّ زوابِعِ الأريجِ والعبيرِ..
لا تتجافى أرواحُهُم عنِ بَثِّ بَدَائِعِ السِّحْرِ.. ونثِّ روائعِ الحكايا..


العُمُرُ كِذْبَةٌ كَبِيرَةٌ لا يُصَدِّقُهَا غيرُ أولئكَ الآيلَةِ أَرْوَاحُهُم للنَّخرِ..
المُوَارَبَةِ أَعْمَارُهُم على التَّهَاوِي.. المَبْنِيَّةِ أحلامُهُم عَلَى شَفَا جُرْفٍ هارٍ من قُنُوطٍ يَنْهَارُ بِهِم في هَاوِيَةِ الغِيَابِ الكَفُورِ..!!
أَمَّا الشُّعَرَاءُ فَلا يَغِيبُونَ .. إِنَّهُمُ الاسْمُ الحَرَكِيُّ لِلْحُضُورِ النَّعِيمِ..


عُمْرُ الشَّاعِرِ مَرْجُ قَصَائِدَ، حَدِائِقُ غَنَّاءُ فَيحَاءُ ذاتُ بهجَةٍ .. في كلِّ حديقةٍ يَزْرَعُ وطنًا .. وآمالاً وتاريخًا ..
في كلِّ حديقةٍ يُنْبِتُ أصدقاءَ وعشَّاقًا ومريدينَ..
في كلِّ جدولٍ يُجْرِي يَنَابِيعَ وِدَادٍ، وَيُرْسِلُ جَدَاوِلَ شِعْرٍ .. ويعصرُ سحائبَ عطرٍ .. ويرسمُ أفاويقَ سحرٍ ، ويمدُّ سهولَ طُهْرٍ، ويدلقُ أَنْهُرَ ضِيَاءٍ..
في حديقَةِ الثَّمَانينِ تورقُ القصائدُ القمريَّةُ، وتونقُ الحكاياتُ النَّقِيَّاتُ .. وتشرقُ شموسُ الأحلامِ .. وتدفقُ شلَّالاتُ المَجَازِ..
بِعُكَّازِ مَجَازِهِ السِّحْرِيِّ يَشُقُّ أَنْهُرَ الوجدِ.. ويُفَرِّقُ بِهِ غِرْبَانَ اليَأْسِ السَّوْدَاءَ، ووطاويطَ القُنُوطِ الكَافِرَةَ..
يَسْتَدْنِي أُمَّةَ الأَحْلامِ العظيمَةَ .. يَضُمُّ إليهِ كُلَّ أَحَلامِ العَاشقينَ.. يكتشفُ كلَّ ما ضَاعَ من أُمْنِيَاتِ العُشَّاقِ على مَرِّ المَوَاجِدِ.. على امتدادِ التَّوَاشِيحِ والتَّسَابِيحِ وَالتَّبَاريحِ..
يُؤاخِي بينَ شُعُوبِ العُشِّاقِ .. يُوحِّدُ نَبَضَاتِهُم ونظراتِهِم وَلُغَاتِهِم .. يُطْعِمُهُم حُبَّهُ، وَيَسْقِيهِمْ لَبَنَ شِعْرِهِ، وَخَمْرَةَ رُوحِهِ، وَحُمَيَّا تَشَاويقِهِ، يُلَقِّنُهُم أبجديَّاتِ المَحَبَّةِ .. يُحَفِّظُهُم قَوامِيسَ تَبَتُّلِهِ .. وَمَعَاجِمَ تِهْيَامِهِ.. ثم يَدْلُقُهُم في فَضَاءِ العشقِ الأَنِيقِ عُشَّاقًا ساحرينَ.. سَادرينَ.. نادرينَ..!


على شَهْقَةِ قَلْبِ الشَّاعِرِ يُدَوْزِنُ المُحِبُّونَ آهَاتِهِمُ الحُرَّى .. عَلَى نَفْثَةِ رُوحِهِ تَنْشَأُ القَصَائِدُ السَّاحِرَاتُ .. وعلى رَعْشَةِ أَصَابعِهِ تَنْمُو مَلَايِينُ المَعَانِي .. وَتَشْهَقُ مَلَايِينُ الأَحْلامِ..


بِعُكَّازِ مَجَازِهَ يَشُقُّ عَتَمَاتِ الكَوْنِ الأَزَليَّةَ.. ويُمْطِرُ يَبَابَ العُصُورِ من دِيَمِ رُوحِهِ المِدْرَارِ، من غَدَقِ أَعَمَاقِهِ الذَّرِيفِ الهَطُولِ..
كلماتُهُ تونِقُ حقلاً.. وتسمقُ نخلاً .. وتورقُ بستانًا .. وتشهقُ سماءً..


وما الثَّمَانُونَ..!؟
الثَّمَانُونَ عندَ البَشَرِ العاديِّيينَ إنذارٌ باقترابِ المَوْتِ.. إشعارٌ بِتَهَدُّمِ الرُّوحِ..
أمَّا عندَ الشُّعَرَاءِ فَهْيَ إيذانٌ بانطلاقِ الحَيَاةِ .. إعلانٌ باستواءِ الأحلامِ..
على حَدْبَةِ الثَّمَانِينِ يستقيمُ العالمُ .. تستوي الأحلامُ .. وتنضجُ القصائدُ ..
تتكاثرُ فراشاتُ الأملِ .. وتنفرجُ عوالمُ الدَّهشَةِ .. ويمتدُّ دربُ الأمنياتِ الصِّباحِ.. وتصحو الأفجرُ الرِّطَابُ العِذَابُ، وتتثاءبُ الصَّبَاحَاتُ الشَّذِيَّةُ البَهِيَّةُ..


ما معنى أن يُبْلَغَ الشَّاعِرُ سَنَّ الثمانين ؟
معنى ذلكَ أنَّهُ عَبَّأَ الحَيَاةَ بِالجَمَالِ والعبقِ والألقِ ملايينَ المرَّاتِ.
الحَيَاةُ بِقَلْبِهَا الرَّقِيقِ لا تحتملُ أن ينفخَ فيهِ شاعرٌ كلَّ هذا العطرِ.. كلَّ هذا الشَّذا ..


الحَيَاةُ تُودِي مُبَكِّرًا بِالعَبَاقِرَةِ، بالسَّحَرَةِ الأفذاذِ الذين يُخْرِجُونَ من قُبُّعَاتِ الكلامِ حَمَائِمَ البَيَانِ، ومن أَكْمَامِ الألفاظِ عَصَافِيرَ الدَّهشَةِ، ويُطَيِّرُونَ من أفنانِ المَجَازِاتِ عَنَادِلَ الإِعْجَازِ.. لِيَسْحَرُوا بَهَا القُلوبَ والأَعْيُنَ ..
منذُ طَرْفَةِ بنِ العبدِ وأبي تمَّامٍ والشَّابِّيِّ والتِّيجاني يوسف بشير، وعلي الرقيعي وعبد المجيد القمُّودي وغيرهم.

فما الَّذِي أَبْقَى جَمِيلاً كَالبغدادِيِّ كُلَّ هذا العمرِ..!؟ كُلَّ هذا العطرِ..!؟
ذلكَ لأَنَّهُ تَحَايَلَ عَلَى الحَيَاةِ بِالحَيَاةِ، خَدَعَهَا بأناقَتِهِ .. وَلَبَاقَتِهِ .. بِشَبَابِهِ الدَّائِمِ .. بربيعِ روحِهِ الَّتِي لا تَشِيخُ .. فلم تتبيَّنْ عُمُرَهُ حَقِيقَةً وَلا اِفْتِرَاضًا .. فالرَّبِيعُ لا يُنْبِئُ بِغَيْرِ الشَّبَابِ.. وَالإِينَاقُ لا يَشِي بِسِوَى العِطْرِ والضَّوْءِ والأنسامِ ..
كانَ كُلَّمَا استجوبَتْهُ الحَيَاةُ مَدَّ لَهَا بِطَاقَةَ قَلْبِهِ الفَتِيِّ الَّذِي لا يَهْرُمُ .. فَتَطْمَئِنُّ بِهِ .. وَتَطْمِئِنُّ مِنْهُ عَلَيْهِ..


وهذهِ الثَّمَانُونُ مَاذَا تَعْنِي ..؟
إِنَّهَا تاريخٌ من شعرٍ وهوًى وَعِشْقٍ وجَمَالٍ .. تاريخٌ من حِكَايَاتٍ وَرِوَايَاتٍ ..
هِيَ دَوَاوِينُ وَأَشْعَارٌ وَقَصَائِدُ.. إِنَّهَا أَرْخَبِيلاتُ بَهَاءٍ .. جُزُرُ وِدَادٍ، أَصْدِقَاءُ وَتَلامِيذُ وَعُشَّاقٌ وَمُرِيدُونَ..
إنها سِفْرٌ .. وَسَفَرٌ.. مُدُنٌ وَبُلْدَانٌ .. وَمَطَارَاتٌ وَبَوَّابَاتٌ.. وَعِبَارَاتُ تَرْحِيبٍ.. وكلمَاتٌ مغموسَةٌ في التَّوَجُّسِ.. وَنَظَرَاتٌ غَارِقَةٌ في الخَوْفِ.. وَرَعَشَاتٌ مَحْفُوفَةٌ بِالغِيَابِ .. وَزَفَرَاتٌ مُغَلَّفَةٌ بالمَوْتِ.. وَتَلْوِيحَاتُ وداعٍ . .ونبضاتُ أملٍ وألمٍ.. إِنَّهَا ابْتِسَامَاتُ التَّلَاقِي.. لِذَاذَاتُ الإِيَابِ .. إِنَّهَا عِنَاقٌ وأحضانٌ وَقُبُلاتٌ..


أَنْ يَصِلَ الشَّاعِرُ للحديقةِ الثَّمِانينِ معنى ذلكَ أَنَّهُ قد زَرَعَ في الحَيَاةِ ثمانينَ حَقْلاً من ليلكٍ وسوسَنٍ وأُقْحُوَانٍ وزيزفون ..
معنى ذلكَ أَنَّهُ قد بنى ثمانينَ مدينةً، وفتحَ ثمانينَ بلدًا .. وأسَّسَ ثمانينَ وطنًا، وآخى بينَ ثَمانينَ أُمَّةً .. وَوَحَّدَ ثَمَانِينَ شعبًا ..
معنى ذلكَ أَنَّهُ أَطْلَقَ ثمانينَ ألفَ سِرْبِ حَمَامٍ وَيَمَامٍ، وعنادلَ وهداهِدَ ونوارسَ..
معنى ذلكَ أَنَّهُ شَيَّدَ ثمانينَ ألفِ قلعَةٍ لِلحُلُمِ وَالأَمَلِ وَالنُّورِ، قِلَاعٌ لا يلتهمُهَا الأسى .. ولا يَهْدِمُهَا الغِيَابُ المَقِيتُ..
معنى ذلكَ أَنَّهُ يُنَصِّبُ في رائعةِ الخُلُودِ ثمانينَ سماءً مُجَلَّلَةً بِالأَقْمَارِ وَالنُّجُومِ والغُيُومِ، وَأَنَّهُ اِبْتَكَرَ حَيَاةً مُكَلَّلَةً بِالأَحْلَام وَالابْتِسَامِ والانسجامِ.
وَأَنَّهُ أَطْلَقَ مُلْيُونَ سِرْبٍ مِنَ الأُمْنِيَاتِ الَّتِي لا تَغِيبِ.. وَمِنَ الأَحْلَامِ الَّتِي لَا تُغَادِرُ.. وَسَرَّحَ مِلْيُونَ ضِحْكَةٍ كَانَتْ تَخْتَنِقُ فِي آسَارِ الصُّدُورِ.. في صُدُورِ الأُمْنِيَاتِ.
وَأَسْكَرَ الكَوْنَ بأناشيدِهِ وأغاريدِهِ، وَرَنَّحَ الحَيَاةَ بسحرِ معزوفاتِهِ..
وأنَّ قَلْبَهُ المُضِيءَ قد بلغَ سِنَّ العِشْقِ المُقَدَّسِ، سِنَ الوَلَهِ ..
وأنَّ روحَهُ قد ناهزَت سِرَ الخلودِ، قدَ عاقرَتْ سِحْرَ الوُجُودِ، وَأَنَّ أَحْلَامَهُ قد رَفْرَفَتْ مِلْءِ الحَيَاةِ، حَدَّ الجَمَالِ بَأَلْفِ جَنَاحٍ، وَأَلْفِ نَجَاحٍ، وَأَلْفِ قَصِيدَةٍ.. وَأَلْفِ مَعْزوفَةٍ تَذْرُفُ حُلُمًا وَأَمَلاً وَانْتِشَاءً..

فإذا ما التَفَتَ الشَّاعِرُ عِنْدَ نَاصِيَةِ الثَّمَانِينَ أَشْرَفَ عَلَى عَبْقَرِ المَعْنَى، وَأَطَلَّ على وَطَنِ أَحْلامٍ، وَأُمَّةِ عُشَّاقٍ، وَسِفْرِ أَشْعَارٍ مُجَنَّحَةٍ .. أَطَلَّ عَلَى كَوْنِ مَحَبَّةٍ .. عَلَى عَوَالِمَ مُدْهِشَةٍ من تَرَاتِيلَ وَتَهَالِيلَ .. وَتَفَاصِيلَ .. عَلَى عُمُرٍ مُتَرَامِي الأَفْرَاحِ، مُغْرَورِقٍ بِالدُّعَاءِ وَالضِّيَاءِ.. وَالغِنَاءِ وَالرُّوَاءِ..

اجدابيا/ 26/ 7/2017

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :