الشاعر السنوسي حبيب في ذكراه السابعة تناول لقصيدته ” ذاكرة خباز “

الشاعر السنوسي حبيب في ذكراه السابعة تناول لقصيدته ” ذاكرة خباز “

  • صالح حصن

طفرات التحول. التمرحل ملازم لحياة الكائنات منذ بدء تخليقها إلى حين مماتها، ولكل مرحلة صفات و متطلبات تختلف عن سابقتها وعن لاحقتها،وإن كان مسار الحياة يركن إلى دوافع الغريزة و التركيبات الجينية عند الحيوان والنبات فإنه عند الإنسان محكوم فوق هذا بالعقل الذي به تُروّض الغرائز وتُذلّل مصاعب الحياة اعتماداً على تمكنه من مراكمة المعرفة واستنباط نتائج العمل قبل فعله.وقد مر الإنسان بعديد المراحل في تكونه الاجتماعي ككائن اجتماعي بطبعه. أولها كان التوحش حيث كان يعيش منفرداً، الكهف مأواه و الصيد قوته فاخترع للصيد أدوات واستأنس النار ثم خاض تجربة استئناس أليف الحيوان من جواره فأصبح يمتطيه و يقتات من منتجاته بدل لحم صيده تلك التجربة والمعرفة نقلته إلى مرحلة الرعي وذلك دفعه لملاحقة خصب المراعي ما جعله يطور مسكنه من الكهف إلى الخيمة التي يسهل نقلها عند الرحيل ونصبها في هضاب وسهول عديدة ثم جعلته مرحلة الرعي ينتبه لأثر الدورة السنوية للمناخ وتعاقب الفصول واكتشاف طرق تكاثر الحبوب فانتقل إلى مرحلة الزراعة واستطاب الاستقرار قرب مصادر الماء والتزم بمتطلبات المرحلة بإعطاء قيمة للزمن بمتابعته والدأب على العمل وحساب النتائج والتحلي بالصبر. ثم أوصلته هموم تطويره لأدوات إنتاجه وأسلحته لأن يتطور نمط حياته تلقائياً لحياة المدينة التي أكسبته رفاه العيش. لا يخفى أن الانتقال من مرحلة لأخرى يتم بسلاسة غير محسوسة تبدأ بأحداث صغيرة ثم تنمو خلسة وبلا ضجة ولا ضجيج لتصبح طفرات تغير اجتماعي هائل. في بداياتها يصدر عنها وميض خاطف وصرير خافت كصرير مفتاح صغير يُزحزٍح مزلاج قفل صغير مثبت على باب كبير يعيش الناس خلفه في حيز محدود، فتنفتح بعدها حياتهم على فناءٍ رحبٍ واسعٍ جديد. لا يحس بذلك المهماز سوى الموهوبين ولا يسمع صرير ذلك المفتاح غير المبدعين الفَطِنين مُرهَفي الحس من أهل الأدب والفن بينما يبقى العوام غافلون عنه لما للحياة بطبيعتها من صخب يطغى على فرص التقاط ملامح التغير وتصور خُرُط مساره واستباق السير على طُرقها قبل أن يصدمهم واقعه. وحينها تقع على هؤلاء مسؤولية البوح والتصريح بما سمعوا وأحسوا حتى يعي العوام الذين عادة ما يأخذهم سياق من قليل الفطنة و كثير الغفلة للتحولات التي تجرهم لتؤلف في مجملها مراحل لحياة الإنسان. أحس الشاعر المُرهَف الطَبِن الفَطِن”سنوسي حبيب” بوخز مهماز التغيير واستمع لصرير عربدة مفتاحه حين أدارته بجواره يد خبّازٍ صبور في قفل باب لَبِنة مجتمع قريته(الأسرة) لينفتح أمامها بابا واسعاً تنطلق منه إلى رحاب حياة جديدة؛ وتنبئ بأن ما يحدث لحظتها كان؛ ولادة”مدينة” من رحم القرية، وصاح بأن المدينةُ تولدُ من تحَتِ كفيه في هذه الساعةِ المُرهِقَة مِنَ القَرْيَة إلَى المَدِينَة. في مجتمع القرية تنبني الحياة على نمط اقتصاد الاكتفاء الذاتي الذي فيه لا تستهلك الأسرة سلعة من غير إنتاجها ولا تُنتِج سلعة ليست بحاجة لها. ذلك الاقتصاد هو ما فرض وجوب الانضباط و تراتبية السلطة العمرية، الذكورية داخل الأسرة وأرقاها الأب يليه الابن الأكبر فالأصغر تدرجاً كما أوجب ترابط الأسرة وتكتلها بحيث تعيش متراصة في مسكن واحد واسع حتى تضمن أمنها وتتمكن من تكثيف جهود كل أفرادها لإنتاج احتياجاتها الحياتية المنوعة وتبعه اختيار حياة القبول والرضا بكفاف العيش. في مجتمع القرية تتولى الأسرة إنتاج جميع احتياجاتها من تربية الدواجن والأغنام إلى غزل الصوف ونسجه ورقع المخروق من الثياب وكذلك زراعة وحصاد وطحن وخبز الحبوب … وغيره كثير. كان على الفرد داخل الأسرة بحكم تصنيفه الخِلقْي كذكر أو أنثى أن يتعلم كل الحرف وينجز كل المهام المنوطة بفئته أو جنسه خدمةً لكامل الأسرة وبذلك يرى الرائي المنسج والرحى والتنّور، باعتبارهما يخصان النساء، من مكونات كل بيت في القرية. لا توجد حِرفةبالقرية تقدم سلعة أوخدمة بمقابل من خارج الأسرة باستثناء حرفٍ ضئيلة كالبقّال الذي كانت جولاته بين بيوت مجموعة من القرى المجاورة نصف سنوية على الأكثر يبيع سلعاً خفيفة ونادرة مثل الإبر والأمشاط ومشابك الشعر والمرايا والكحل و… وكلها مستوردة لاتتوفر موادها الخام في البلد حتى يتم إنتاجها داخل الأسرة، والحرفة الأخرى للحجّام الذي يمارس مهنة الطب والجراحة مثل الختان، يقدم خدمتة كخبير متخصص يجوب القرى حاملاً على كتفه مخلاته وبها أدواته الخاصة. تستمرالحياة في القرية على ذا الحال حتى …. تقع واقعةالطفرة!!!.. وما أدراك ما الطفرة ….. طفرة التغير تكون مع نشأة (كوشة)بالقرية. الكوشة هي أول مُرْتقٍ للقرية على سلم نمط حياة المدينة، فهي أول مركز خدمة وإنتاج يتكون خارج مضلة وسلطان الأسرة، وتقبل به الأسرة،ليقدم لها خدمة أوسلعة لايُنتَجها أفرا دها داخل مُحيطها. وذلك التغير هو جوهر الفرق بين حياة القرية والمدينة. الكوشة هي ذلك المُفتاح الذي يعربد داخل قفل الانغلاق الاقتصادي للأسرة ليخرجها تدريجياً من قوقعة “اقتصاد الاكتفاء الذاتي”إلى رحاب “نظام التكافل الاقتصادي” الذي تتسم به حياة المدينة . ثم وبعد الكوشة يتفهم المجتمع القروي معنى ومزايا التكافل الاقتصادي ويحس بأثقال اقتصاد الاكتفاء الذاتي فتتوالى الخدمات المدينية بالظهور بحسب الدوافع أو الاحتياج لها سواء لقصور في كمية الإنتاج الأسري أو لارتفاع جودة إنتاج المراكز أو انخفاض تكلفته. تظهر مراكز أخرى مثل القصابين والحلاقين وطهاة المطاعم و المغاسل وورش الصيانة، وهلم جراً حتى ترتفع لمستوى مراكز الثقافة والترفيه كالمكتبات و السينما والمسارح. فتصبح القرية مدينة وتنمو المدينة بتوفير خدمات تكافلية أفضل وأسرع فتجذب سكاناً وخبراء وطالبي معرفة جدد يرقون بها وترتقي بهم. الشّاعِرُ وَالقَصِيدَة. الشاعر سنوسي حبيب كان مثقفاً واعياً مؤمناً بأن العمل قيمة في حد ذاتها وليس وسيلة لتوليد قيمة مادية أو معنوية وكان ذلك منطلقاً لأفعاله وأقواله وأداة قياس في تعامله مع غيره. لقد كان مدمناً على ممارسة العمل بشتى ضروبه، منتبهاً لكل مفرداته ، مثمناً لفاعليه ودافعاً برفاقه نحوه بل وكان مُنشئاً مبتكراً لميادينه. وكأي إنسان يضل للعمل الفني وقعاً روحياً وأثراً عليه وارتباطاً خاصاً به غير انفعالية وجمال العمل الفني لا تضمحل إن لم يفعل ما ينبغي أن يفعل بمتلقيه كمافعل بمنتجه. كل إنتاج يوصف بأنه فني وجميل متى ما عبّر عن مكنون إنساني غير أن تعدد مفردات العمل وترابطهاوتضامنها في حَمْل ونقل أثقال المشاعر الإنسانية هو ما يشعل شغف المتلقي ويستحث مكامن الانتشاء فيه فينفذ مضمون العمل لوعاء الإدراك عنده؛ ولكل فن منافذه لمداركنا فكما للوحة الرسم منفذها المنظوري بالعين تتلمس القصيدة مسارب أخرى لتسلكها صوب ذات المستقر التفاعلي عند المتلقي، من هذا المنطلق رأيت كمتناول لقصيدة (ذاكرة خبّاز) أن أمزج رؤياي مع رؤيتي لها ككيان جميل أخّاذ قائماً بذاته موازياً للوحة رسم منظوري لفنان مُبدِع حُمِّلت ذات المضمون. لقد رأيتُ لهذه القصيدةزعدة أبعاد منبعثة من نقطة واحدة يضمها إطار مُحكم، فتراءت لي كرسمٍ منظوري إبداعي والتشبيه هنا مقتصر على الشكل الهيكلي- أو التركيبي أو التخطيطي- و ليس على التناول السيميائي الإيحائي للقصيدة،أذكر هذا تساوقاً مع رأي الفيلسوفة “سوزان لانجيه Susanne Langer” التي تقول إنصافاً لإمكانات غير المنطوق على التعبير: (إن وسائل الاتصال غير الكلامية أكثر تعقيداً من اللغة المنطوقة ما يجعلها مناسبة فقط للتعبير عن أفكار يعجز الإسقاط الألسني عن إيصالها وبالتالي لا يجب فرض نماذج الدراسة الألسنية عليها لأن القوانين التي تحكم انبناءها تختلف بأجمعها عن القوانين التي تحكم اللغة وبذلك تكون عصية على الترجمة، ومعالجة هذه القوانين بمصطلحات ألسنية يجعلنا نخطئ فهمها).وكما لا يخفى فإن لوحة الرسم ذات البعدين تكون كخط أو خطوط مستقيمة على ورقة مُسطحة كأن تكون مستطيلاً أو مربعاً أو دائرة وما إليه غير أنها متى احتوت على البعد الثالث ستعطي توهماً بصرياً للرائي بأنها مجسم يكون منظوراً ذهنياً كخيال لكنه غير ملموس لأنه غير حقيقي فالمجسم لا تحتويه ورقة مسطحة لكن إيحاءً الرسمة بعد ثالث دون أن تمتلكه لكنها به تمتلك حق وصفها بثلاثية الأبعاد. بعد هذا يتوقف الرسم ليستعين الفنانون على النفاذ لذهن المتلقي بالتشكيل وبالنحت وبعدما تستقر قاع النفس لدى المتلقي يحتمل أن تحمل اللوحة بعداً رابعاً هو بعد الزمن وذلك حين تحتوي الزمن الذي رُسِمَت فيه لكن الزمن لايحتويها، مثلما يحدث مع اللوحة التي تُعبر عن العواطف والوجع الإنساني فتبقى مؤثرة معبرة كلما نُظِر إليها عبر الأزمنة وبهذا يمكن وصفها بأنها متعددة الأبعاد. كذلك الأمر في قصيدة (ذاكرة خبّاز) لا يستطيع القارئ أن يغفل عن أي من أبعادها الأربعة وإن لم يفكر بتفصيص تلك الأبعاد لأن التفصيصق يبطل سلاسة نفاذ المضمون ونزوله أعماق المشاعر وسكناه في قرار الفؤاد.وقد أضاف الشاعر للقصيدة أبعاداً أخرى مثيرة، مثل بُعد التنبؤ وقراءة الأثر المستقبلي للحدث اليومي البسيط الذي تناولته القصيدة على حياة الأجيال، وهذا بُعد الزمن في مداه المُستقبلي وليس فقط بأثره الماضوي على المشاعر. أما البعد الذي شدني إلى روح القصيدة فسأسميه “البعد الجذوري أو العُروقي”– تفاديت هنا تسميته بالجذري أو التجذيري لارتباط الكلمتين بمعنى الأصالة والتأصيل ولا بالعرقي لما تعنيه الكلمة من انتماء وكلاهما هو غيرما عنيته. عنيت أنه متى امتلكت القصيدة بُعد الزمن أصبحت ككائن حي وستكون حينها أقرب ما تكون لشجرة وارفة مثمرة لها جذور منغرسة في الأرض ومثلها تغطس جذور القصيدة في أعماق الأنفس البشرية بمختلف مفاهيمها و تجاربها الحياتية، فيقرؤها كل قارئ من حيث يرى ويحس بما يعكس ما أدركته منه ولتلتحف بها مشاعره. وفي هذا البعد والمستقر يتفاوت المتلقون بين بعضهم البعض وحتى بين بعضهم والمُنشىء. وربما تشابهت حالتينا هنا فقد لا يرمي الشاعر لما ذهبتُ أنا إليه ولكن ما أردفه به من قول يجعلني أرتاح لمنظورينا لتلك اللوحة المرسومة لحالة خبّاز كادح منتج خلال مرحلة من مراحل تطور الحياة المجتمعية للإنسان في القرية. كتب الشاعر قصيدة “ذاكرة خبّاز” حينما كان قابعاً في سجنه الذي زُجّ به فيه وهوطالب بالجامعة ينادى و زملاؤه بتصحيح مسار التغيير الذي دعموه وأيدوه 1سبتمبر 1969 وعدم تمكن الفكر الدكتاتوري من السيطرة على الحكم وعودة ليبيا للحكم المدني الديمقراطي بثوبه الذي كان الليبيون جميعهم يطمحون إليه. بقي كسجين رأي لاثني عشر سنة (تقريبا) كتب خلالها عدة قصائد وقد استجمع في هذه القصيدة بعض مشاعره و رؤاه وما تذكّره من نفحات كدحه يافعاً مع شقيقه الأكبر وصاغها متمحورة حول عمود من الحب؛ الحب بمعناه الأشمل والأوسع؛ الحب بما له من جمال وعفوية و مسؤوليات وواجبات مُلزِمة الأداء وواجبة الإتقان. حب الأسرة والأبناء والمجتمع و حب العمل والصبر عليه وخلق المتعة والاستمتاع بإرهاقاته كما الاستمتاع باللحظات السعيدة واللمة الهنية و بكل ما في الحب وما عليه وما معه؛ وقد ضمّت القصيدة مناحِ إنسانية حية جميعها تفرعت عن ذلك المشعر الفطري المُقدس، هبة الله للإنسان في هذه الدنيا “الحـــــب”.

ذَاكِـــرةُخَبّــــاز

شعر: سنوسي حبيب

إذا الليل أغوى المحبين بالهمس والدفء

كلُّ أليف يطيب بأنفاسِ محبوبة ويميل على قبلةٍ

كالصباح الوليد يميل الذي يسهر الليل

يصنع خبز الصباح على فتحةِ نار

يدفع للخلف كوماً من الجمر أنفاسه

تصهد الوجه والساعدين تمتد ألسنة النار

للقلب تنهض في البال امرأةٌ تهدهد طفلها

وتسليه بالمنيات البسيطات نم فالصباح رباح

وبابا سيحضرخبزاً وحلوى ويقرصها الجوع

إذ يستبد لها الليل والخوف تسهّداً في ظلمة الدار

دفئاً يعذبه البعد شوقاً يجرحه البرد جفناً يقرّحه

السهر قلباً تقتته الحسرات إذ يذهب والطفل

في نومه توسده طرفها وتنام على أملٍ

في صباحٍ سعيد وإذ تستفيق العجينة

بين أصابعه كائناتٍ يحاورها ويلاطفها ويهدهدها

في حنان المحبين يطرحها جانب الجمر

هيا انضجي ياكرات دمي المدينة تولد

من تحت كفيه في المدينة تولد من

تحت كفيه في هذه الساعةالمرهقة

ويسكنها في النهار لتسكنه حين تهجع

كل البيوت تسرقه سنِه فوق لوح العجين

يرى نفسه قرب زوجته متعباً في الصباح

يضلله الحب منسجمين على كوب شاي

وكسرة خبز طري سجن”الحصان الأسود”

/القسم الرابع / طرابلس. 14/ 12 / 1981 م . * كتاب: أسس السيميائية. المؤلف: دانيال تشاندلِر. ترجمة: د. طلال وهبة. توزيع: مركز دراسات الوحدة العربية

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :