لا تمت قبل أن تحب

لا تمت قبل أن تحب

محمد الغربي عمران

تسحرني تلك الروايات المختلفة عما الفته، تلك الخالية من التكلف اللغوي، أو التراكيب الفنية التي تدخلني في متاهات فوق قدرة فهمي. تروق لي ذات الفكرة البسيطة، والعميقة انسانيا في ذات الوقت، سلسلة الصياغة، متدفقة الأفكار.

ما عنيته هنا أنني وجدت إحداها بعنوان “لا تمت قبل أن تحب”. لكاتب المختلف محمد الفخراني.

رواية بإيقاع حكائي ممتع، حيث يتناوب على سرد أحداثها ثلاثة رواة: شبيه العليم، حورية الشخصية المحورية في الرواية ، وشقيقها “تشوكا”. شبيه العليم أنصب سردة في مناجاة “الرومانسي”، أحد شخصيات العمل، وكأنه يحاكمه. “حورية” تحكي عن حياتها، تلك العلاقات المتداخلة مع الحياة والمجتمع وأفراد أسرتها. تشوكا يسرد مفاهيمه وحياة يعيشها موجها حديثة لشقيقته “حورية”

الفضاء المكاني الإسكندرية بكورنيشها، وميادينها وأحياءها وأسواقها وشواطئها، حيث تدور الأحداث بين البحر واليابسة. بدأها الكاتب بحادثة انتشال  شاب في 18 من عمره، لفتاتين في السابعة عشرة من الغرق في بحر المدينة، صديقتان إحداهن “حورية” التي أشرفت على الموت، المنقذ يسحب الغريقتين ليتجمع من على الشاطئ حولهن، يذهب المنقذ قبل أن تفيق الغريقة وتتعرف عليه.

الرواية تتحدث عن علاقة أفراد أسرة حورية ببعضهما. أم عازفة للسكسفون، وأب صاحب أستوديو تصوير، ترث حورية  عشق فن العزف، لكنها تتخرج اخصائية رعاية للتوحد وتعمل في مركز للرعاية، ويرث شقيقها تشوكا حب التصوير جائلا في العالم بكمرته كفنان تصوير.

المنقذ “رمومانسي” يتخرج طبيب جراح دون أن يتعرف على من أنقذ. حتى يصل عمر كل منها إلى الأربعين، المنقذ والغريقة ظلا طوال السنوات كم ينتظر حلم يتحقق.

 ترصد الرواية تلك الأرواح التي تسكن مدينة واحدة، وتظل روحيهما لأكثر من عشرين سنة تبحثان عن بعضهما، لا يتقابلان، وأن كانا يمران من جوار بعض، أو يكونا في قاعة واحدة، أو مقهى، أو مطعم دون أن يلحظ كل منها الآخر. لا يلتقيان حتى سن الأربعين، حين يصاب ثدي حورية الأيمن بالسرطان، وفي المستشفى  تلتقي بطبيب جراح مكلف بأجرأ بتر الثدي المصاب. لا تعرف بأنه  من أنقذها من الغرق. ولا يعرف أنها فتاة الدراجة البرتغالية التي لمحها ذات طريق وهو على سيارته. هو الطبيب وهي المريضة.

الرواية مش هذه الحكاية ، فعلى مدى 231 صفحة يصطحب الكاتب قارءه إلى عوالم، ومفاهيم متنوعة، لم يكن الحب ثيمته الوحيدة، ولا فن الصورة الذي أجاد تقديم نماذج منها أثرت على الوعي الإنساني. إلى تلك العلاقات الإنسانية المتداخلة، الوفاء، الانتحار…. أشياء وتفاصيل دقيقة لمواضيع شتى.

الكاتب أجاد اغواء القارئ بالكثير من الأساليب، وبأسلوبه البسيط الذي لا يمكن اجادتها إلا من فنان.

كانت الأم قد رحلت عن دنيا أسرتها منذ سنوات، وتخرجت البنت لتعمل أخصائية توحد، والإبن رحال كعاشق للتصوير.

أسطر تحكي فيها حورية لحظات فارقة، أحببت أن يتعرف القارئ على أسلوب الفخراني:

“أعتاد بابا يصورني بدون مناسبة، لكنه طلب مني أصوره هذه المرة، في واحدة من اللقطات قال لي  وهو ينظر في الكاميرا: تعالي أقعدي جنبي. أحب لما يقولها لي. نقل لي كرسيا جانب كرسي المكتب، وقعدنا أنا وبابا متلاصقين، التقط مفاتيحه من سطح المكتب، وبهدوء فتح بمفتاح صغير درج يخصه، وسحب منه البوم صور، حطه قدامه، ابتسم لي وقال: عارفة أني أحبك أنت وتوشكا؟. أومأت له مرتين “عارفة ياباب”. طبطب على خدي، وطبطب على البوم الصور قبل ما يفتحه، ابتسم وهو يسحب أول صورة.

كل صور الألبوم كانت لبابا وماما، معا في كل صورة، يسحب الصور، يتفرج عليها بابتسامة من غير كلام، وأنا أتفرج معه، يميل يده لي بالصورة، فأخذها وأتفرج عليها من جديد، وأشوف تفاصيل جديدة، كلها صور أشوفها لأول مرة، وكلها في الشارع أو على البحر أو الشط، بابا وماما مشغولين بنفسيهما في كل صورة، يلتفتان نادرا بالصدفة للكاميرا وكأنها غير موجودة.

أنتهى الألبوم وبابا ينقل عينيه وابتسامته بين الصور على سطح المكتب، قلت له : أجمل صورة لك أنت وماما يابابا. أمن على كلامي بهزة من رأسه وسحب صورة، نظرت فيها لثانيتين أو ثلاث وهي في يده ، ونقلت عيني بين الصور على مهل، وبدأت أتكلم على الطريقة التي كان ينظر بها لماما وهي تستعد لتبدأ عزفها في حفلاتنا البيتية، وأني كنت أنتظر منه تلك اللحظة لما يحرك مفتاح النور الصغير، الذي ثبته في سقف  لأجلها “تك” فتغمرها حزمة شفافة من نور أبيض وسط الظلام، ويكون هو بابا، في هذه اللحظة واقفا على حافة النور ينظر لها بتلك الطريقة.

قلت لبابا وأنا أنقل عيني بين الصور: كنت وقتها أتفرج على عينيك وأنت يابابا، نظرتك أنت، أنا عمري ما شفت ولا رأيت رجلا ينظر لامرأة بهذا الحب.

قلت لبابا أن هذه النظرة منه لماما أوضح صورة في قلبي وعقلي. كنت لأول مرة أقول لبابا هذا الكلام.

التفت لبابا بعد ما أنهيت كلامي.. وعرف قلبي أنه مات…

بهذه البساطة مات بابا ، وبهذه البساطة عرفت أنا…. بابا بابا بابا كررتها ثلاث مرات … يداه في حجره، وصورته مع ماما بين أصابعه، يبتسم لها….”.

من رواية لا تمت قبل أن تحب.

محمد الفخراني. كاتب حر، مواليد 1975. صدر له : بنت الليل، فاصل للدهشة، قبل أن يعرض البحر اسمه، قصص تلعب مع العالم,  طرق سرية للجموح، الف جناح للعالم. عشرون ابنة للخال، مزاج حر، وأراك في الجنة. وروايته الجديدة هذه التي بين يدينا “لا تمت قبل أن تحب”، صادرة عن دار العين القاهرة.هي تحية لكاتب مدهش.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :