مثالب الناصرية .. الارث العسكري

مثالب الناصرية .. الارث العسكري

بقلم :: د :: عابد الفيتوري 

أوائل السبعينات من القرن الماضي صدر الإيعاز بتدشين رابطة للشباب الناصري ، تعتقد في المبادئ التي نادى بها ، تدود عنها وتنتصر لها . انظم لها عدد من الشبيبة ، وبدأت اللقاءات على مستوى البلديات ، وتناولت الأيدي كتيب عبدالناصر ” الميثاق ” في طبعة زاهية توزع مجانا ، مرفقة بهرطقات حسنين هيكل في كتاب ذيّله صور عبدالناصر مع الأسرة وأثناء استرخائه على المناضد الوثيرة ، وكل ما من شانه إظهار العلاقة الحميمة التي تربط المؤلف بالزعيم  الخالد والطاغية الأوحد .

وجدت خطب الطاغية عبدالناصر الشعبوية آذان صاغية ، وهي تدغدغ تطلعات الجماهير ، وتعزف على أوتارها . كان صدى الثورة الجزائرية يجوب الأفاق ، وحالة الغثيان والغصة لما آل إليه مصير الشعب الفلسطيني ومحنته القاسية ، أنتجا شعور مليء بالانهزامية ينتظر المنقذ . وكيف تقدم ذاك الشاب العسكري الغر والمغامر ليجد لدى طليعة جماعة الإخوان المسلمين يد العون لبلوغ هرم السلطة . أوهمهم بالانتماء للجماعة والإيمان بما تعتقد ، والتزام المسار والعهد . ونفض عنه كل العهود ما ان امتطى سدة السلطة في اعرق دول المنطقة حضارة ، واخصبها ثراء ( مصر ) .

الاستعمار الأجنبي ، الاستقلال ، الاستبداد والدكتاتورية ، الثورات أو ربيع الحريات . أربع مراحل تسم تاريخ دول المنطقة خلال الحقبة الأخيرة . وعند المرحلة الثالثة الأكثر مأساوية برزت ظاهرة الاستعمار الجديد باستثمار العنصر المحلي . وقد ارتبطت بالانقلابات ، وحكم العسكر ، ومصادرة الرأي المخالف . وكان تبني قومجية عبدالناصر بمثابة الخدعة الميكافلية الناجعة كوسيلة لنهب الطغاة ثمرة الاستقلال ، والحيلة الأمثل بإجماعهم لدغدغة مشاعر الجماهير وامتصاص حنقها المتزامن وأجواء المناخ المشحون المتهم للموقف العربي في العموم بالقصور والتقصير وعدم القدرة على القيام بأعباء الدور الكافي نحو القضية الفلسطينية . ومع مرور الزمن تبث أن ابرز نتائج سياسات المرحلة ، تكميم الأفواه ، وإيلاج الشعوب زنازين السجون ، وفقدان أراضي جديدة ، والجهل والجوع والمرض والتخلف الحضاري ، واتضح بما لا يدعو مجالا للشك ان ” اسرائيل ليست حاجة امبريالية فحسب ، انما هي حاجة عربية بالاساس . فالأنظمة العربية تحتاج اسرائيل كعصا غليظة للمثقفين والجماهير ” (1) . ويبقى ما انتهت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية لدول السبع خير شاهد  :  مصر ، سوريا ، ليبيا ، الجزائر ، اليمن ، موريتانيا ، السودان . ولتأتي المرحلة الرابعة – ربيع الحريات  – الجواب المرتقب والحتمي  وان تأخر ، وارهاصة لمرحلة تاريخية جديدة .

عندما تودون خلع طاغية عن عرشه ، فانظروا أولا أن عرشه القائم في أعماقكم قد تهدم . (2) .. وانه لمما يدعو للريبة ، بعد كل هذه السنين ، وبعد كل ذلك الألم الذي توجع بترياقه الشعب المصري بصورة خاصة ، والأمة العربية بوجه عام . لا يزال هناك من يحتمي بمظلة سياسية تسمى ” الناصرية ” ، مرجعيتها شاويش عسكري نهب السلطة ومزق الاستقرار والأمن الاجتماعي والسياسي في اعرق دولة عربية ، وصمام أمان الأمة بأسرها .

وكان لأمراض الطغيان ، تضخم الأنا ، وحب الزعامة والظهور التي تجسدت في شخصية هذا الرجل ، أن تفرز روائح الموت وحمامات الدماء ليكتوي الشعب المصري بآلامها . في حرب اليمن التي ذهب ضحيتها أكثر من عشرين ألف جندي مصري ، ولتعاني دولة اليمن بعد استقرار سياسي لعقود طويلة ويلات الحرب والخراب وحكم العسكر ، وليدمر أعتى وأقوى جيش عربي على تخوم دولة عربية شقيقة تمهيدا لتقديمه طعم في مغامرة أخرى تنتظر. أما عن القضية الأم ، فيكفي القول إن أعلى سقف لمفاوضات الأمة اليوم وهي تستجدي إسرائيل السلام . العودة إلى ذات الحدود التي فقدتها بسبب مغامرة الطاغية ، تلك المغامرة الخاسرة والغير محسوبة العواقب عام 1967 م . ناهيك عن العبث السياسي بمصير سوريا تحت زيف شعارات الوحدة والقومجية ، لتنتهي الى ما هي علية اليوم من بؤس سياسي فاحش شرّع لحكم العسكر التوريث ، وكذا تدمير جيشها أسوة بالأردن التي لم يجد ملكها بد أمام الغضب الشعبي وفورة العامة أثناء حرب 67 . فأوعز للجيش الأردني بالمشاركة وهو يعلم انه يدفع به إلى الجحيم . كان أمام أمرين أحلاهما مر .

وفي افادة لمدير الطب الوقائي بوزارة الصحة تقول ان عبدالناصر قد : ” امتنع عن تطعيم الأطفال على مستوى الجمهورية ، بحجة لا شيء يعلوا فوق صوت المعركة ، مما أدى لوجود اكثر من 13 الف مصاب بالشلل فى نهاية حكمة ، مع العلم ان معظم الدول العربية بدأت التطعيم الاجبارى فى السبعينات .

في مقابلة لمجلة اليسار الجديد عام 1967 مع اليساري اسحق دوتشر يستطلع خلالها بإسهاب أسباب هزيمة 67 وخراقة ناصر في استبداده بالقرار . منها :

” لم يتخذ أي إجراءات وقائية .. ترك ساحات طيرانه بدون حماية وظلت الطائرات قابعة في الأرض دون تمويه ، انه لم يهتم حتى بتلغيم مضايق ثيران ، أو أن يضع بضعة مدافع على شواطئها .. إن هذا يوحي بمدى خراقة ناصر …  لقد كشفت ” نكسة ” يونيو .. فقدانه لاستراتيجيا سياسية ، ونزوع ثمل ذاتي عاطفي ، واعتماد مفرط على الزعامة القومية . لقد كان هذا الضعف من بين الأسباب الحاسمة في هزيمة العرب . إن انغماس الدعاة في التهديدات لتدمير إسرائيل بل حتى إبادتها ، وهي ما برهنت عدم الجاهزية العسكرية بوضوح إنها تهديدات فارغة ، قد وفر مادة خصبة للشيفونية الإسرائيلية ، كما مكن الحكومة الإسرائيلية من أن تثير في شعبها نوبة الخوف والعدوانية الضارية التي انقلبت على رؤوس العرب .. نظام الحزب الواحد والعقيدة الناصرية وغياب القرار الحر . كل هذا عمل على تعطيل الوعي السياسي عند الجمهور ..فحينما تكون القرارات المهمة في السياسة معتمدة على قائد مستبد فسوف تنعدم المشاركة الشعبية الحقيقية .. كان بالإمكان أن لا يكون للضربة الاستباقية التي وجهها الإسرائيليون بأسلحة تقليدية كل هذا التأثير المدمر ، لو كانت القوات المصرية معتادة على الاعتماد على المبادرات الفردية للضباط والجنود ، ولأتخذ القادة الميدانيين احتياطات دفاعية أولية دون انتظار أوامر عليا .. كما أن الأساليب العسكرية البيروقراطية للناصرية أعاقت من ناحية أخرى التكامل السياسي لحركة التحرير العربية ” . (3)

احد الذين اطلعوا على شيء من نصيب الشعب الفلسطيني من تهجير وقتل وتشريد ، ينقل لنا من صور الهزيمة او النكسة الكبرى .  قائلا : ” لقد أدركت فداحة الكارثة .. عندما زرت مخيمات الفلسطينيين في الأردن وسوريا عام 1967 م بعد حرب الأيام الستة بأسابيع قلائل ، لقد تأثرت لما أصاب الأطفال الفلسطينيين من جراح وبالظروف التي اجبر اللاجئون على العيش فيها ، والقصص التي كانت ترويها الأمهات والأخوات والزوجات ” . (4)

نعى الشاعر نزار قباني في قصيدة نسجها عقب هزيمة 1967 عنوانها ” هوامش على دفتر النكسة ” . نعى اللغة الخشبية القديمة ، والفكر الذي قاد إلى الهزيمة ، والخطابة العنترية التي ما قتلت ذبابة ، وارتجال البطولة ، وبطش الحاكم الذي حول الشعب إلى اخرس ، أو بلا لسان حسب تعبيره ، وما إليها من المنغصات الجاثمة على المشهد الذي تصدرته مغامرة عبدالناصر . والتي انتهت باستيلاء الجيش الإسرائيلي على القدس في ستة أيام . وكذا مرتفعات الجولان ، وسيناء، وتشريد الفلسطينيين في الملاجئ لتمنح فرصة جديدة وغير متوقعة للاستقرار الصهيوني بالمنطقة . تقول بعض مفردات القصيدة :

انعي لكم ، يا أصدقائي ، اللغة القديمة

والكتب القديمة ..

انعي لكم ..

كلامنا المثقوب كالأحذية القديمة

ومفردات العهر ، والهجاء ، والشتيمة

نهاية الفكر الذي قاد إلى الهزيمة ..


إذا خسرنا الحرب .. لا غرابة

لأننا ندخلها

بكل ما يملكه الشرقي من مواهب الخطابة

بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة


السر في مأساتنا

صراخنا أضخم من أصواتنا


كلفنا ارتجالنا

خمسين ألف خيمة جديدة


نمدح كالضفادع

نشم كالضفادع

نجعل من أقزامنا أبطالا

نجعل من أشرافنا أنذالا

نرتجل البطولة ارتجالا


يا سيدي السلطان ..

لقد خسرت الحرب مرتين

لان نصف شعبنا

ليس له لسان ؟

لان نصف شعبنا

محاصر كالنمل والجرذان

في داخل الجدران

من عسكر السلطان

لقد خسرت الحرب مرتين

لأنك انفصلت عن قضية الإنسان


لقد هزم الطاغية شعبه وأراد أن ينتصر به . ومعتقلات صلاح نصر . وشراسة التعذيب في دهاليزها ،  والتفنن في ألوانه . تجيب على ذلك . وبالإمكان استشراف صور عنها ، من واقع ما دونه بأقلامهم من تجرعوا ويلاتها .

في مذكراته التي صدرت تحت عنوان ” التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين ” . يقول ” على عشماوي ” ابرز قادة التنظيم السري الذي قاده سيد قطب ، وصدر بحقهما سويا حكم الإعدام عهد عبدالناصر ، وخفف الحكم على عشماوي إلى خمس وعشرون سنة ولم يستثني قطب . يصف لنا في سياق تهجمه على التنظيم ، وندمه على المرحلة التي قادته للانتماء إليه ، واقع سجون عبدالناصر وألوان التعذيب . يقول : ” في اليوم التالي ذهبت للقاء بعض الإخوة .. صعدت إلى الشقة  وكانت في إمبابة ضغطت على جرس الباب وإذا بشخص لا أعرفه قد فتح لي وقال: نعم ، سألته عن الأخ مرسى ، فقال: تفضل .. إنه موجود .. وتصورت أنه أحد أقاربه ، دخلت إلى غرفة الصالون وكنت أعرف مكانها لأنني معتاد على الشقة ، وكان الأخ مرسى قد تزوج حديثًا ، فوجئت بمجموعة من الشباب يرتدون ملابس مدنية ، وقد خرجوا من خلف الكراسي والكنب رافعين رشاشاتهم في وجهي ، كما يحدث في أفلام السينما ، هجم عليّ أحدهم وأمسك بيدي وأوثقهما بحبل كان معه ، ثم أجلسني على أحد الكراسي وأوثقني فيه ، فتش جيوبي ، وجد بطاقتي الشخصية ، قال لهم : ” إنه على عشماوي “، وكأنهم قد وجدوا بغيتهم ، أو وجدوا شيئاً ضائعاً منهم ، فتوالت المكالمات بأننا وجدنا فلاناً .. وبعد حوالي ساعة  ظللت خلالها مربوطًا إلى الكرسي  حضر أحد الضباط  كما فهمت يرتدى ملابس مدنية ، وعرفت بعد ذلك أنه “الصاغ رياض إبراهيم” .. ثم أخذوني ووضعوني في إحدى السيارات، وخلفنا أربع سيارات أخرى .. توجهوا بي إلى السجن الحربي . كانت لحظة الدخول إلى السجن الحربي مشهداً فريداً . ما أن دخلت من البوابة حتى رأيت ما لا يمكن لعاقل أن يتصوره .. أناسًا يصرخون وأناساً وجوههم في الحائط .. أصواتا عالية تأتى من مكاتب بعيدة ، شباباً ملقى في الفناء أمام المكاتب .. أشكالاً كثيرة من هذا الطراز. ذهبوا بي أمام أحد المكاتب . عرفت بعد ذلك أنه المكتب الرئيسي الذي يجلس فيه ” شمس بدران ” وباقي المحققين ، وقفت ووجهي إلى الحائط ، وقع بصري على حديقة مقابلة للمكتب ، رأيت ما لم أتخيله أبدا . جاءوا  في هذه اللحظات بأحد الأخوة من الشرقية وهو الأخ ” محمد عواد ” ، وظلوا يضربونه ، ألقوا به في النافورة ، ركب فوقه صفوت الروبي ، ظل يضرب رأسه في حائط الفسقية حتى تهشمت تماماً .

ساعة أو أكثر قليلاً وأنا واقف أرى أشكالاً مختلفة للضرب والتعذيب ، كان يخرج من المكتب الذي أقف أمامه أشخاص ، ويدخل أشخاص . كل منهم يحملق فيّ ، خرج أحد الضباط وقال لي : ” قل”. قلت له : ماذا أقول  . فكررها مرارًا وكنت أرد عليه بالإجابة نفسها . فلطمني وذهب .

بعد فترة جاء أحد الضباط وأدخلني الغرفة ، في لحظة دخولي أنقض عليّ ، صفوت الروبى ومحمد المراكبى ومحمد عبدالعال ، مزقوا ملابسي ، طرحوني أرضاً في حركة مفاجئة يبدو أنهم تدربوا على تنفيذها مع الجميع . فقد رأيت الكل وقد تمزقت ملابسهم بهذه الطريقة.

حفلة التعذيب

بدأت حفلة التعذيب  كما كانوا يسمونها  استمرت حوالي عشر ساعات متصلة ، بدأت كما قلت بأن طرحوني أرضاً ، ثم مزقوا ملابسي ، وأوثقوا يدي ووضعوهما مع قدمي ووضعوا بينهما ” ماسورة ” حديد ، ثم علقوها فوق كرسيين ، فصرت معلقاً رأسي أسفل ، وقدمأي ويدأي مربوطتان بالحديدة المشدودة على الكرسيين ، بدأ حاملو الكرابيج الثلاثة : يضربون فوق قدمي بثلاثة كرابيج في أيديهم ، استمر الضرب نصف ساعة تقريبًا ، ثم أنزلوني ، .. طلب منى أن أعترف ، قلت له : لا أعلم شيئًا ، علقوني مرة أخرى وبدءوا يضربوني من جديد ، ظل الحال على هذا المنوال أربع أو خمس ساعات ، ..

ومع هذا فقد قلت له : إنني لا أعرف شيئًا ، ولو كنت أعلم شيئاً لقلته لك ، علقوني مرة أخرى ، وتجدد الضرب حوالي ساعة ، ثم أنزلوني  . ليعرضوا على الأمر من جديد لأجيبهم بالإجابة نفسها .. ويعلقوني مرة ثالثة ، وظلوا يضربونني حتى فارقت الوعي ، ولا أدرى كم من الوقت ظللت مفارقاً الوعي . لكنى وجدت نفسي وهم يحاولون إعادتي إلى رشدي مرة أخرى ، وقد أعطوني ” ماء وسكر ” حتى أستعيد حيويتي بعض الشيء ليداوموا تعذيبي ، لأنهم على ما يبدو وكما قال شمس بدران كانوا في سباق مع الزمن لأن يوقفوا تنفيذ أي من العمليات ضد الدولة . علقوني مرة أخرى  بعد أن أفقت وبدأ الضرب بالكرابيج ، كنت قد بدأت أحس بالضعف وبعدم سيطرتي على عضلات جسدي ، في هذه اللحظة إذا بشخص طويل أبيض وذي شوارب ضخمة وشعر أشيب يدخل الغرفة . رأيت شمس بدران يقول له : تفضل يا باشا .. وقال لي شمس بدران : إن لم تعترف فإن الباشا سوف يتكفل بك . واقترب منى ” الباشا ”  وأنا معلق ووضع إصبعيه على حنجرتي وأخذ يضغط ببطء وفن وكأنما هو أستاذ في مهنته ، علمت بعد ذلك أنه ” حمزة البسيوني ” الشهير، ظل يضغط على حنجرتي حتى كنت بين الإغماءة والإفاقة ، ولا أدرى كنت إلى أيهما أقرب ، كان  حين أكون أقرب إلى الإغماءة يتركني حتى أفيق و أتنفس ، ثم يضغط مرة أخرى ، إنه فن مدروس كان يمارسه بشدة وبفن ومقدرة .

ثم قالوا لي : اعترف. قلت : لا أدرى شيئاً .. فقال لهم : ابعدوا عنى وأعطوني كرباجاً واحداً ، وسوف أجعله يركع ويعترف بكل ما نريد . وبدأ يضربني ، كان يعمل على أن تأتى ضربته على إحدى .. الخصيتين .. بطرف الكرباج ، وكان لا يخطئها مرة ، ظل على هذا الحال ما لا يقل ولا يزيد على ربع ساعة . بعدها فقدت السيطرة على كل شيء في جسدي ، انهار جسمي انهياراً كاملا ، لم أستطع أن أحرك شيئًا ، ولا عضلة من عضلاتي ،  أحسست أن عقلي مشلول . أنزلوني وأنا في هذه الحال ، لا أدرى ماذا أقول ، كنت أسمع حديثهم وكأنه آت من بعيد .. ونتج عن فترة التعذيب أن تورمت ساقأي وملاهما الصديد  .

لكن الغريب أن بعض الضباط المنوط بهم التحقيق مع الإخوان كانوا يسرفون في ضربهم دون سبب واضح ، وحتى بعد أن يعترفوا ، ولم أكن أفهم لماذا ؟ هل هي شهوة التعذيب ، أم أنها نوع من السادية ، ولعلي أخص بالذكر ما كان يفعله أحدهم وكان برتبة رائد . فقد كان حين يدخل إليه أحد الإخوان يقول : علقوه ، واضربوه مائة كرباج ، قبل أن يسأله في أي شيء . فيقول له : أريد أن أعترف . فيرد : لا أريد اعترافك . لابد أن تضرب أولاً. ويضربونه ثم يعترف ثم يضربونه مرة ثانية ثم يقول الكلام نفسه  ويضربونه مرة ثالثة ، المهم أن يتم الضرب ، وأن يتم التعذيب .

ومن الأمور الخطيرة التي حدثت أثناء التحقيقات : موت عدد من الإخوة أثناء التعذيب وعدم تسليم الجثث إلى أهاليهم أو حتى الإعلان عن موته … كانت تجربة فريدة تعلمتها وعشتها ، وكان لابد أن يحدث ذلك ، فالمدة 25 سنة ” ولابد أن أعمل على الاستفادة من الوقت الذي أعيشه ” .(5)

البعض يرى في نهج الجماعة نوعا من احتكار الدين وتوظيفه من اجل أغراض سياسية ، كما أنهم سياسيون صعاب المراس ، وأنهم يعاملون إخوانهم في الدين المشكوك في نقائهم بوحشية مفرطة .  لست هنا بصدد تفنيد حجج أو نقد جماعة الإخوان المسلمين ، وإن كنت لا اتفق مع هذه الفرقة لمجرد التسمية أحيانا ، فلا أتصور وجود جماعة تنعزل داخل مجتمع ما وتنعث نفسها بالمسلمة إلا ومحيطها المجتمعي غير مسلم ، أو أنها هكذا تنظر إليه . هل الآخرون من غير المنتمين كفار قريش أم أهل ذمة ؟ لا ادري . ولعلني لا أرى ما يدفعني إلى الوقوف عند سيد قطب من بين ذلك الكل من المجتهدين عبر التاريخ الطويل الممتد منذ ظهور الدعوة المحمدية بالجزيرة العربية إلى اليوم . وأكثر من هذا أن سيد قطب نفسه يوجه إلى عدم تقليده دون تصريح عندما يقرر : إن المسلمين الوحيدين الجديرين بالإتباع هم الجيل الأول للإسلام . ودون أدنى ريب يحسب للجماعة على الصعيد السياسي خيار مقارعة استبداد الطغاة بغض النظر عن الوسائل .

جماعة الإخوان بوجه عام تعد من بين الجماعات الإسلامية المعاصرة وذات جذور تاريخية عريقة تعود إلى مؤسسها الأول الحسن البنا في العقد الثالث من القرن الماضي ، تتمتع بخزين متراكم من التجارب الثورية والأنشطة السرية . تتهم أحيانا بإقصاء الآخر . ففي رسالة للأستاذ البنا باسم نظام الحكم ..  يقول : ما الذي يفرض على هذا الشعب الطيب المجاهد المناضل الكريم هذه الشيع والطوائف من الناس التي تسمى نفسها الأحزاب السياسية ؟! . بالإضافة إلى اتهامات عدة تشير إلى علاقات مشبوهة للجماعة مع منظمات سرية غربية أوردها صاحب كتاب ” الإخوان المسلمين في الميزان ” كعلاقة الحسن البنا بعميد الاستخبارات البريطانية ومستشار السفارة بالقاهرة كلايتون ، وما اورده عشماوي على لسان السيد قطب من تغلغل الماسونية بالجماعة . يرى صاحب كتاب ” صدام الأصوليات ” أن كتاب السيد قطب  ” معالم على الطريق ” الأكثر رواجا .. ” من وجهة نظر واقعية لا يضيف جديدا ، وانه كتاب عادي وغير مؤثر كما انه عدواني من الناحية الفكرية ” . (7)

التاريخ الإسلامي حافل بظهور الكثير من الجماعات الإسلامية التي امتطت صهوة السياسة . ذكر ابن خلدون جنوحها إلى القيام على السلطة القائمة ، ووصف أتباعها بالمنتحلين للعبادة والموسوسين . يقول : ” إن كثير من المنتحلين للعبادة وسلوك طرق الدين ، يذهبون إلى القيام على أهل الجور من الأمراء ، داعين إلى تغيير المنكر والنهي عنه ، والأمر بالمعروف ، رجاء في الثواب عليه من الله ، ويعرضون أنفسهم في ذلك للمهالك ، وأكثرهم يهلكون في هذا السبيل مأزورين غير مأجورين ، لأن الله سبحانه لم يكتب ذلك عليهم ، وإنما أمر به حيث تكون القدرة.. فإن لم يستطع فبقلبه ” . (8)

وفي موضع آخر من كتابه ” المقدمة ” يقول  : ” إن كثير من الموسومين يأخذون أنفسهم بإقامة الحق ، ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته.. وأكثر المنتحلين لمثل هذا نجدهم موسومين أو مجانين ، أو ملبسين يطلبون بمثل هذه الدعوة رئاسة امتلأت بها جوانحهم ، وعجزوا عن التوصل إليها بشيء من أسبابها العادية ، فيحسبون أن هذا من الأسباب البالغة بهم إلى ما يؤملونه من ذلك ، ولا يحسبون ما ينالهم فيه من الهلكة ، فيسرع إليهم القتل بما يحدثونه من الفتنة ، وتسوء عاقبة مكرهم ” . (9)

ومع أن جماعة الإخوان سعت مؤخرا إلى الاندماج ، والى تطوير منهجها العملي الذي يستبعد ما يعرف بجناح التنظيم السري أو العسكري بالأحرى . رغم ذلك , لا يزال هناك نوعا من حالة نفور وتخّوف من انخراط هذه الجماعة في العمل السياسي ، ما قد يمكنها السيطرة على مفاصل اللعبة السياسية ودوائر صناعة القرار  .

في كل الأحوال .. ” قد اختلف معك في الرأي ولكني على استعداد لأن ادفع حياتي ثمنا لحقك في الدفاع عن رأيك ” مقولة فولتير الشهيرة . والديمقراطية تعني الحق في التفكير المختلف . ” حريتي هي حرية الغير  .. والمواطن له الحق دائما أن يقول فيما يفكر” على رأي سارتر . ” الله في تدبيره ينظم الأمور برفق فيضع الدين في العقل عن طريق التعليل وفي القلب عن طريق النعمة ، ولكن من شاء أن يضع الدين في القلب والعقل بالقوة فما وضع فيهما دينا بل إرهابا ” على رأي بسكال . ما يعني أن احترام الرأي الأخر يستدعي الاعتراف من قبل الجماعة بالآخر بالقدر عينه الذي تطالب فيه الاعتراف بها  كجماعة سياسية استقطبت لها الكثير من الأتباع ، وحققت لها قاعدة شعبية عريضة في مصر وسوريا والسودان ومؤخرا في ليبيا ، رغم سيل الانتقادات التي لا ينبغي اتخاذها ذريعة لإقصائهم .  ولعل بقاءها مهمشة ولا شرعية ومطاردة ، يعطي ذريعة لمنتسبيها لنهج خيار العمل بسرية في الظلام  . بينما عملها في وضح النهار يمكّن الآخر من مقارعتها الحجة أو الالتقاء معها إن كان ثمة مواطن تلتقي عندها التيارات العلمانية والإسلامية . يقول المفكر المغاربي الجابري : ” إن قضيتي الأساسية ، واعتقد إنها قضية كل مثقف عربي في الظرف الراهن ، هي البحث عن نقط الالتقاء التي تجعل في الإمكان وقوف الجميع في كتلة تاريخية واحدة لمواجهة المصير المشترك .. ان الاختلاف الايدولوجي شيء مشروع ويفرضه الواقع والمصالح ويجب أن يحميه القانون ، ولكن عندما تكون القضية المطروحة قضية .. مثل التنمية والعقلانية والديمقراطية والأمن الغذائي .. الخ . فلا بد من حد أدنى من العمل المشترك . إذ ليس في القوى المتصارعة واحدة تستطيع بمفردها انجاز تلك المهام ” . (9) هذه التوفيقية التي ينبغي لها القبول أو الإقرار بوجود مواطن الالتقاء بين العلمانية والإسلام  يتجاوزها الجابري بالتأكيد على أن  : ” الإسلام دين ودولة وعقيدة وشريعة ” ، ويتهم نظيره حنفي – في حوارهما – بالقفز على المسألة عندما يقرر أن : ” الإسلام دين علماني في جوهره ” . وهو ما أثار حفيظة ” طرابيشي ” فوصف المشهد بالجنوح ، وبتعبيره ” إضراب عن التفكير ” . معقبا على مقولة الجابري بالإشارة إلى بواكير التعرف عليها لدى مؤسس حركة الإخوان ” حسن البنا ” : ” الإسلام دين ودولة ، ومصحف وسيف ” . وتسأل : ” كيف نقول عن الإسلام انه دين ودولة ، مع أن كلمة ( دولة ) نفسها لم يجر استعمالها بالمعنى الذي تستعمل به اليوم ، إلا في زمن متأخر للغاية ، وتحديدا في عصر النهضة ؟ وكيف نسلم تسليم البداهة بأن الإسلام دين ودولة ، مع إن كلمة ( دولة ) لم ترد في القرآن الكريم مرة واحدة ؟ أي كيف نسمي الإسلام بما لم يسم به نفسه ، وبغير ما سمى به نفسه ؟ ” . (10)  وفي بيان العلاقة بين طرفي المعادلة يقول : ” العلمانية تعني فقط فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية ، ومنع تعدي السلطة الدينية إلى المجال السياسي ، كما يمنع تعدي السلطة السياسية إلى المجال الديني .. وهذه الحاجة إلى الفصل بين السلطتين الزمنية والروحية قد تكون اليوم في المجتمعات العربية الإسلامية اشد إلحاحا منها في أي مجتمعات أخرى . فكلنا يعلم أن السلطة الدينية في المجتمعات العربية الإسلامية متضخمة إلى حد تكاد معه أن تتحول ، بما هي كذلك ، إلى سلطة سياسية ، ولا سيما في الحقبة التاريخية التي يجري فيها على نطاق واسع تسييس الإسلام ويلعب فيها رجال الدين ، بما هم كذلك ، دور القادة والموجهين السياسيين . وكلنا يعلم أيضا أن السلطة السياسية في المجتمعات العربية الإسلامية ، في مسعاها إلى أن تضفي على نفسها الشرعية المفتقدة تعمل على تغطية نفسها وستر عورة لا شرعيتها أو لا شعبيتها برداء الشرعية الدينية الايدولوجيا الدينية  ” . (11)

حول النقطة الأخيرة نجد الإقرار عينه لدى هنتنغتون بتاريخية المنحى : ” وان كلا من الحكومات والحركات المعارضة تحولت إلى الإسلام لتقوي من سلطتها وتضمن التأييد الشعبي .. معظم الحكام والحكومات ، بما في ذلك الدول الأكثر علمانية ” . (12)  تستثمر الدين كجسر للتسويغ السياسي ، اتفاقا  وحكمة ميكافيلي : ” من المهم للملوك والأمراء أن يزينهم التقى “.

لدى زكي نجيب محمود – احد اساطين الفكر الفلسفي المعاصر – نلتمس رؤية تشير الى ان ” العلمانية ” لا خلاص منها في دعوة ” الاسلام دين ودنيا ” وان المشكلة تكمن في الصيغة الواضحة والمتطرفة في فكرة الحاكمية ، وسيطرة النزعة الانسانية عليها ، والتي ستقودنا ضمنا الى  العلمانية : ” لان الوحي الالهي ليس هو وحده الذي يحكم بيننا بنفسه ، وإنما يحكم من خلال بشر يفهمونه ، ويفسرونه ، ويقننونه ، ويطبقونه … إن المصدر الإلهي بمجرد ان يجد طريقه الى عقل إنسان .. يكتسب الكثير من صفات البشر ، ويتغير بتغيرهم .. والدليل القاطع على ذلك هو الاختلال الهائل في طرق فهم النصوص الدينية الواضحة الصريحة . ففي قلب المجتمعات التي تنادي بالتطبيق المباشر للنص الالهي .. تجد في المجتمعات الاستبدادية تكون الطاعة لولي الأمر ، وفي الليبرالية تؤكد فكرة التسامح وقبول الرأي الآخر .. وهكذا فإن النصوص لا يمكن ان تحكم مجتمعات بنفسها .. وإنما هي تستطيع ان تحكم فقط من خلال بشر ، فيهم كل العيوب والتقلبات التي ينسبها الفكر الديني الى ما هو ” علماني ” ، وإذن ” فالعلمانية ” لا مفر منها ، سواء اردنا أم لم نرد ، حتى في صميم الحكم المرتكز على المصدر الديني ” (13)

شهادة أخرى على صنوف التعذيب بسجون الطاغية عبدالناصري  نقلا عن كتاب ” قصة أيامي  ” للفقيه والخطيب المصري عبد الحميد كشك ، الشهير بالشيخ كشك ، ضرير عانى هو الآخر ألم تلك المعتقلات الرهيبة . فاختار في سياق سرده لتجربته المريرة الاستشهاد برواية لسجين آخر  أوردها الأستاذ احمد رائف في كتابه ” صفحات من تاريخ الإخوان ” . تقول :

” ستردد هذا الكلام بعد أن تقرأ تلك الصفحات التي ترينا صورا من الجانب الأسود للعصر الناصري ، إنها حجرة في الدور الأرضي على يمين الداخل من بوابة السجن الحديدية الكبيرة ، تقع أمام بئر الماء ، حيث فناء السجن الحربي ،.. الحجرة لا تتسع لأكثر من عشرة فهي ضيقة بالنسبة للعدد الكبير الذي وضع فيها وقد أشرقت علينا شمس النهار وعددنا خمسة وأربعون ، بينما مساحة الحجرة التي يطلقون عليها مخزن رقم ( 6 ) حوالي مترين في ثلاثة أمتار ، وكانت تفوح فيها رائحة البول والبراز والصديد ، وتنطلق منها الأنآت الخافتة المكتومة ، فالتعليمات تقضي بعدم صدور أي صوت وإلا سوف تدخل الكلاب الجائعة التي تثيرها رائحة الجروح !!

وهنا ينبغي التنويه ، لقد دخلنا المخزن وليس فينا واحد إلا وبه بعض الجراح والدم يسيل دون توقف . أدخلونا المخزن في فزع وخوف ، فتساقطنا في ظلامه كل منا فوق الآخر ، وجمد كل منا على الوضع الذي قذف عليه حتى مطلع النهار ، فقد قال الحراس إنهم لا يريدون أصوات ولا حركة فالموت جزاء من يفعل ، وكنا نعرف أنهم لا يكذبون في مثل هذه التهديدات ، شذ عن هذا واحدا منا كان يحبس بوله ، وكان اقلنا في الذهاب إلى دورة المياه قد انتهى عهده بها منذ ست وثلاثين ساعة ، وبعد فترة قصيرة فتح الباب وظهر من فرجته شبح لجندي عملاق كريه المنظر قد امسك في يده سوطا وصرخ فينا :

هل هناك من يريد الذهاب إلى دورة المياه ؟

وسكتنا جميعا ، وفتح فمه بسباب قذر بذيء ثم صرخ ثانية مكررا نفس السؤال ، وكان الظلام شديدا ، فكان من الصعب أن نرى الانفعالات المختلفة على الوجوه ، وكان الخوف هو القاسم المشترك بيننا بطبيعة الحال ، وتشجع صاحبنا وطلب الذهاب إلى دورة المياه ، وكان لواء في الجيش ، فأخرجه الجندي الكريه المنظر من المخزن بعد أن مر هذا الزميل فوق جثث زملائه المكومة دون ترتيب . وأمام باب المخزن حيث الأنوار الخافتة المنبعثة من المصابيح في المكان . ضرب هذا الضابط الكبير ضربا شديدا موجعا ، ثم جاءت الكلاب ونهشت من لحمه أمامنا ، وبعد هذا كله ألقوه في البئر ، وعندما أوشك على الموت أخرجوه وادخلوه إلينا يقطر دماء وماء ، وتركوه يرتجف حتى جفت ملابسه وحدها ، وكانت هذه العلقة مدعاة لاستغنائه عن الذهاب إلى دورة المياه ، فقد تبرز الرجل وبال على نفسه ، وصارت رائحته تزكم الأنوف القريبة منه ، وكان منها أنفي ، وبقى كل في مكانه يجتر أفكاره  وآلامه في صمت رهيب ، ولم تكن تسمع بهمسة أو تحس بنأمة . وكل ربع ساعة تقريبا ، يفتح الباب ويقذف إلينا بمعتقل جديد ، يقذف كما يقذف جوال مليء بالبطاطس مثلا دون ما اهتمام ، وفي العادة يكون هذا الشخص عائدا من التحقيق أو من منزله .

وكان الظلام شديدا فلم نستطع تمييز وجه أحد ، ولكن كانت هناك أيدي تمتد في الظلام لتكتم الأنات الخافتة ، الصادرة من أفواه الجرحى خوفا من بطش الجنود ، وكان جوعنا شديدا وعطشنا اشد ، ولكن ! ما الجوع والعطش بجانب هذا الخوف العارم الذي يقتلع القلوب من الصدور ؟ وبعد مدة سمعت احدهم يهمس : يا جماعة ..

وانبرى إليه صوت الضابط الكبير الكريه الرائحة من ملابسه المتسخة بالبول والبراز : ألا يكفيك ما نحن فيه ؟

ولكن الصوت الهامس قال بإلحاح : لقد اكتشفت شيئا هاما !!

وما هو ؟

بجانب الباب وعاءان من المطاط .

ماذا تعني ؟

أظن أن احدهما للبول والأخر للشراب ، ولكن لا أدري على وجه التحديد أيهما للبول وأيهما للشراب .

وقام احدنا بخفة وبلطف شديدين ، يتبول الواحد في إناء ويشرب من الآخر ، وفي هذه الليلة المباركة شربت البول لأول مرة في حياتي ، ولم يكن طعمه مريحا على أية حال : وليس هناك داع لأن أقول إن أحدا منا لم يدق طعم النوم في هذه الليلة وربما لليالي أخرى أتت في أعقابها ، وكانت الآلام التي واجهناها وعايشناها تشغلنا قليلا عن التفكير في التحقيق الذي قد يدعى إليه احدنا  في أية لحظة من اللحظات !!

وقد قدر لي أن أعيش في هذا الانتظار أكثر من أربعين يوما حتى أرسلت بعدها إلى التحقيق ، وقد رأيت كم هو مختلف عن مثيله في ابوزعبل ، انه القتل تحت السياط والأسياخ الحمراء ، وخلع الأظافر ونهش الكلاب وأسلاك الكهرباء ،  أو تحت وطأة ركل الأحذية الثقيل .

وفي رحلتنا عبر هذه الليلة الرهيبة فتح الباب وقذف إلينا باثنين ، ثم نودي على أحد الأسماء ، وقام صاحب الاسم يرتعد خوفا وفرقا ، ونحن نستمع إلى صرير أسنانه ، وصرت أركز بصري في الظلام ، واستطعت ان أتبينه وهو يمر من فرجة الباب خلال الضوء الشاحب الآتي من المصابيح المنتشرة عبر الساحة ، كان الضابط المسكين الذي لم يسترح من علقة المساء ، لقد طلبوه الى التحقيق ، وإني اعتقد بعد مرور ذلك الوقت الطويل ان كل من بالمخزن قد شاركني دعائي الحار حتى يخفف الله من ألآمه ، وهو ذاهب إلى مصيره المجهول !!

ومع الخيوط الأولى للنهار حتى استطاع كل واحد منا أن يتبين وجه زميله ، فتح الباب ، وظهر أربعة من الجند الأشداء يحملون الضابط الكبير وقد تمزق جسه من السياط ، وأكلت الكلاب من جسمه حتى شبعت ، وفي لمح البصر سمعنا صوت ارتطامه فوقنا ، ولم يجرؤ واحد منا على لمسه أو تخفيف ألآمه التي كانت ممثلة في أناته الخافتة المعطبة ، وكانت ملابسه غارقة في بالدماء ، وكان من الصعب أن نعرف مصدر النزيف . كان جسده جرحا كبيرا غائرا ينزف دما من كل مكان ، ومع اشراقة الشمس فتح الضابط عينيه ثم أرسل صرخة عظيمة خيل إليّ معها أن جنبات السجن قد ارتجت ، ثم سكت إلى الأبد !!

وكانت خسائر هذه الليلة اثنين من القتلى ، وأكثر من أربعين جريحا ، كما علمنا فيما بعد .

جاء الجند وحملوا جثة الضابط المسكين في بطانية من الصوف إلى حيث لا يعلم احد ، وطلع النهار واستوت الشمس وذبت الحركة في الآلة الرهيبة .

لا أكتمكم إن أحدا لم يحزن على الذين ماتوا في الليل ، لم يكن في قلب احدنا مكان للحزن ! فقد غطى الألم والخوف كل جوانحنا ! وكنا نغبط الذين ينجون من العذاب بالشهادة , والذهاب إلى الله .

فتح باب المخزن قليلا واستطعت أن أتبين فناء السجن من خلال عينيّ اللتين أضناهما السهر والألم وأبخرة البول في تلك الليلة الحارة .

ورأيت منظرا لا أنساه !!

مجموعة من الجند ينهالون على شيخ بالسياط ضربا وهو يصرخ ويستغيث ولا تجيبه سوى فرقعة السياط الملتهبة على جسده الواهي الضعيف ، وسكت الشيخ أخيرا ، بعد أن بح صوته من الاستعطاف وطلب النجدة . وظلت يداه المرفوعتان إلى السماء الصافية ، ولا ادري .. أكانتا تحتجان أم تتوسلان ؟ وعلى الجدار المواجه كانت صورتان لجمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر مرسومتان بالزيت .. وفوقهما حكمة مكتوبة بخط واضح ” كنت أخادع الحياة كي أعيش كما أريد ” .

  • .. واقترب مني شيخ عجوز يسيل الدم بجوار علامة الصلاة في جبينه وهمس :
  • نحن نعاديهم في الظاهر .. أما حقيقة الأمر فنحن خدم مخلصون لليهود ..
  • نحن من ؟
  • المباحث الجنائية وسائر أجهزة الأمن ومن يوجههم .
  • أنت تقول كلاما خطيرا .
  • أنا أقول الحقيقة .. كل هذا يضعف الأمة فلا تقوى على الحرب .
  • أي حرب ؟
  • بعد أن ينتهي هذا المعترك سوف ندخل في حرب مع إسرائيل .. ونهزم أمامهم هزيمة منكرة تقتل روح الأمة .
  • لعمري هذا أمر غريب .
  • ستأتيكم الأيام بما لا تعرفون ” . (14)

مجازر لاانسانية متوحشة .. اغتالت الوطن ، فنزف بحار الدماء ، ضرّجت المكان والزمان .. البراري والوديان .. الهضاب والقباب .. البيوت والأبواب .. الأزقة والطرقات .. المدارس والساحات .. التراب والأحجار .. الفيافي والقفار .. التلال والجبال .. المهاد والوهاد .. الأنام والأنام .. دماء  خالية من كرات الدم الحمراء ، إذ المتهم يموت جوعا وقهرا.

يرى المفكر المغاربي محمد عابد الجابري أن الناصرية مرحلة وليست مذهبا في التفكير ولا نظرية في السياسة أو الثورة .. وشبه حال الناس والتيارات الفكرية المخالفة أو المناهضة لما هو كائن بحال المسافرين بالطائرة : ” في الطائرة ، الناس تابعون ، مأمورون ، مسجونون ، مشدودون إلى مقاعدهم بأحزمة . يمنع عليهم الوقوف والانتقال ، ما دام ( القائد ) لم يغير علامة المنع . والطائرة فيها درجتان فقط : درجة سياحية للأغلبية ودرجة أولى لأقلية قليلة ، وأحيانا تكون الطائرة كلها درجة واحدة ما عدا مقصورة القائد . والقائد وحده هو ( القائد ) وهو الذي يخبر بالمكان والزمان ، إذا شاء .. أما ( المضيفات والمضيفون ) فمهمتهم القيام بإشراف سطحي شكلي : توزيع ابتسامات روتينية ، وتقديم وجبات معلبة ، والحرص على حمل الناس على التزام المقاعد ، وشد الأحزمة عند توقع هزات .. أما إذا اهتزت الطائرة بفعل اضطرابات جوية قوية ، فإنهم وإنهن ، أول من يصفر وجهه رغم اصطناع الثبات . والطائرة كما تعرف ، معرضة للسقوط في أي لحظة ، إن أي طائر صغير ، أي حجر ، أي خلل بسيط ، كاف وحده ليجعلها تسقط . وعندما تسقط لا يبقى شيء ” .  (15)

هكذا حال ” المغترون بذرة من العدل .. تراهم يجدفون على كل شيء إلى أن يغرقوا العالم بظلمهم .. وإذا قال احدهم : لقد عدلت ، فكأنه يقول : انتقمت .. وما يطلبون من الاعتلاء إلا إسقاط سائر الناس” . (16)

هذه صورة لجرائم متوحشة في حق شعوب تطالب بالحرية ، ارتكبت باسم ثقافة تنطق بصوت واحد ووحيد ، أو بالأحرى سلطة عسكرية قاصرة اجتثت ما سواها من الرؤى والأفكار المناهضة لمفاهيمها ومضامينها  . متجاهلة لما ينجم عن مسلكها من نتائج  . يقول ابن خلدون : ” إذا كانت الملكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإضافة فتكسر حينئذٍ من سورة بأسهم ، وتذهب المنعة عنهم .. لأن وقوع العقاب به ، ولم يدافع عن نفسه، يكسبه المذلة..” ..  ” الملك إذا كان قاهراً باطشاً بالعقوبات .. فسدت بصائرهم وأخلاقهم ، وربما خذلوه في مواطن الحرب ” . (17)  ولقد خسرت الأمة جميع حروبها في الداخل والخارج . الجهل ، الفقر ، المرض ، الاحتلال والتدخل الأجنبي ، وغيرها . إنها النتيجة الطبيعية لهيمنة نظم الاستبداد والتفرد بالقرار في رسم المستقبل والمصير .


( 1 ) مروان فارس ،    . ص : 47

(2) جبران خليل جبران ، النبي ، المكتبة الثقافية . بيروت . ص : 58

(3) طارق على ، صدام الأصوليات ، ت : د . طلعت مراد بدر ، المركز العالمي  ، طرابلس . ص : 352 – 357

(4) نفس المصدر السابق . ص : 34

(5) على عشماوي ، التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين ، منشورات مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية ، القاهرة . ( ص 232 وما بعدها )

(6) طارق على ، صدام الأصوليات . ص : 135 . ” ” قامت الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية بتأييد أكثر العناصر الرجعية بحماس ضد الشيوعية أو القومانية العلمانية وغالبا ما كان هؤلاء أصوليين دينيين متشددين : الإخوان المسلمين ضد ناصر في مصر ، ساركات إسلام ضد سوكارنو في اندونيسيا وجماعة الإسلام ضد بوتو في باكستان وفيما بعد أسامة بن لادن وأتباعه ضد الشيوعي نجيب الله  في أفغانستان ” . انظر نفس المصدر : ص : 308

(7) ، (8) ابن خلدون ، المقدمة ، ص : 151 وما بعدها

(9) حوار المشرق والمغرب ، برعاية صحيفة ” اليوم السابع ” . منشورات مكتبة مذبولي ، القاهرة . ص : 19. لوحظ اثناء اجتياح الربيع العربي لسوريا ان طاغيتها بالوراثة عندما وجد عرشه مهدد وان لا مناص من تقديم بعض التنازلات . اعلن عن الانتقال الى مرحلة التعددية الحزبية بعد امد طويل من حكم الحزب الواحد . لكنه اشترط في اقرار قانون الاحزاب ألا يكون الحزب دينيا او امتداد لاحزاب خارجية . وذلك لسد الطريق امام جماعة او حزب الاخوان المسلمين .

(10) المصدر السابق . ص : 140

(11) نفس المصدر . ص : 138

(12) صموئيل هنتنغتون ، صدام الحضارات ، ت : د. مالك ابوشهيوة ، د . محمود محمد خلف ، الدار الجماهيرية ، طرابلس . ص : 216

(13) فؤاد زكريا ، الفلسفة والدين في المجتمع العربي المعاصر ، ( بحث مقدم ضمن فعاليات المؤتمر الفلسفي العربي الاول  بعمان ) . مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروث . ص : 61 . وفي السياق عينه يرى ان  : ” كثير ممن ينتمون الى الحركات الدينية يتعمدون الخلط بين المصدر الالهي للنص ، وبين اشخاصهم ، فيضفون على آرائهم الخاصة قداسة لا تستحقها ، ويطالبون الشبان ان يبدو لهم القدر نفسه من الطاعة والاذعان الذي يبدونه لتعاليم الدين الاصلية ” . ص : 64 .

(14) الشيخ عبدالحميد كشك ، قصة أيامي  ، دار المختار الإسلامي ، القاهرة . ص : 88 وما بعدها .

(15) حوار المشرق والمغرب ، برعاية صحيفة ” اليوم السابع ” . منشورات مكتبة مذبولي ، القاهرة . ص 81

(16)  فردريك نيتشه ، هكذا تكلم زرادشت ، ص : 114

(17) ابن خلدون ، المقدمة . ص 165

 

 

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :