بعد معركة سرت: تنظيم «الدولة» يتمدد مغاربيا ويُعاودُ الانتشار صحراويا

بعد معركة سرت: تنظيم «الدولة» يتمدد مغاربيا ويُعاودُ الانتشار صحراويا

ضبط الجيش الجزائري أخيرا 17 صاروخا مضادا للمروحيات وأسلحة متنوعة في محافظة وادي سوف الحدودية مع ليبيا. وفي تونس قتل الجيش طلال السعيدي الذي يوصف بأنه أمير تنظيم «جند الخلافة» (الموالي لتنظيم الدولة) ويُعتقد أنه هو الذي قاد جماعة مسلحة قتلت عسكريا في بيته قبل أيام في محافظة القصرين المتاخمة للجزائر. تشكل هذه التطورات مؤشرا إلى استئناف «الدولة» عملياته في شمال أفريقيا، واحتمال تمدده غربا في اتجاه تونس والجزائر، وجنوبا نحو النيجر وشمال مالي.
وما يؤكد هذا الاحتمال أن غالبية عناصر التنظيم في مدينة سرت تبخروا بعد إخراجهم من 70 في المئة من أحياء المدينة وضواحيها، ولا يُعرف إلى أين توجهوا. ومن الغريب أن عدد قتلى «الدولة» ضئيل لاسيما إذا ما صدقنا تقريرا سريا صادرا عن الأمانة العامة للأمم المتحدة قدر عددهم بثمانية آلاف مقاتل من جنسيات مختلفة.
والأرجح أن حركة التمدد غربا وجنوبا هي التي ستُحدد ملامح المشهد الذي يُؤسس لما بعد سرت، فبالنظر لضآلة عدد قتلى التنظيم، يُعتقد أن ما بين خمسة آلاف وستة آلاف مقاتل من جنسيات مختلفة غادروا المدينة بعدما ظلوا مُسيطرين عليها طيلة سنتين. إلى أين ذهبوا؟ ذاك هو السؤال الذي يرتبط بالإجابة عليه مصير الصراع مع «الدولة» في شمال أفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء. أين ستدور المعركة المقبلة مع التنظيم في ليبيا أم في الأراضي الجزائرية أسوة بعملية احتجاز الرهائن في المجمع الغازي عين أم الناس القريب من الحدود الليبية في 2013، أم في تونس التي تعرضت لثلاثة اعتداءات إرهابية في 2015؟
أخشى ما تخشاه البلدان المغاربية هو انتشار المقاتلين العائدين من سرت، أسوة بالعائدين من أفغانستان، بعد حسم الصراع في المدينة الليبية التي شكلت العاصمة الأولى لتنظيم «الدولة» في شمال أفريقيا والثالثة عربيا بعد الرقة والموصل. ويمكن القول إن إعلان وزارة الدفاع الأمريكية انتهاء العمليات الجوية ضد التنظيم في سرت، عقب ثلاثة أشهر من انطلاقها، يدل على أنها تأكدت من إلحاق الهزيمة بالتنظيم أو أن لديها معلومات مؤكدة بأن عناصره فرت من المدينة.
ومن اللافت أن الناطق باسم عملية «البنيان المرصوص» العميد محمد الغصري اعتبر في تصريحات بثتها «وكالة الأنباء الليبية» في 12 آب (أغسطس) الماضي، أنّ «معركة تحرير سرت وصلت مرحلتها النهائية بعد الهجوم الناجح الذي نفّذه الأبطال»، غير أن المعارك بين التنظيم و»الأبطال» ما زالت مستمرة إلى اليوم.
على هذا الأساس يجدر التساؤل عن وجهة المقاتلين الناجين من عمليات القصف، فالأرجح أنهم سيتجهون إلى جنوب مدينة غات الليبية عند المثلث الذي يجمع بين الحدود الليبية والجـزائرية والنيجرية. وتـعتبر هذه المنطقة من المناطق الأكثر سهـولة وأمانا لتنقل عناصر الجماعات المتشددة وإخفاء أسلـحتها، وهو أمـر أدركه الجـزائريون مـنذ وقت مبـكر.
وشكل تزايد المخاطر الأمنية على حدود الجزائر مع كل من تونس وليبيا والنيجر ومالي أحد الأسباب الرئيسة لتحديث الترسانة العسكرية الجزائرية، ولاسيما بالوسائل التي تساعد على مراقبة الحدود ومكافحة تهريب الأسلحة من ليبيا إلى دول الجوار. وفي هذا الإطار تسلمت الجزائر من روسيا في 2014 ثماني وأربعين مروحية، وهي السلاح الأساسي الذي يعتمد عليه الجيش الجزائري لمطاردة الجماعات المسلحة، إلى جانب تحديث 39 طائرة أخرى بين هجومية ومروحية نقل، وهي مروحيات مجهزة بمعدات الرؤية الليلية، ما يتيح لها التدخل في جميع الحالات الطارئة. وهذا ما جعل الجيش الجزائري الوحيد في المنطقة المُدرب على قتال الجماعات المسلحة.
غير أن اتساع الحدود المشتركة مع ليبيا جعل الاختراقات ممكنة، وهو الخطر الذي يُجابهه التونسيون أيضا بحكم امتداد حدودهم مع ليبيا على مسافة تزيد عن 500 كيلومتر. وتتحرك جماعات مسلحة متحصنة بالجبال القريبة من الحدود المشتركة مع الجزائر عبر سلسلة المرتفعات الغربية حيث تخطط وتنطلق لتنفيذ عمليات دموية مثل العمليتين اللتين استهدفتا متحف باردو الوطني في العاصمة ومنتجعا سياحيا في سوسة العام الماضي. وتلقى المسلحون الذين نفذوا عمليات إرهابية عدة في تونس تدريباتهم في معسكرات ليبية.
وكان لافتا أنه ما أن انطلقت الضربات الجوية الأمريكية على سرت في آب (أغسطس) الماضي حتى أبصرت الحدود الجزائرية والتونسية مع ليبيا انتشاراً عسكرياً واستنفاراً أمنياً مكثفين، بدافع الخشية من اضطرار عناصر التنظيم إلى البحث عن ملاذات آمنة في حدودهما. بيد أن تقريرا لصحيفة «كوريير ديلا سيرا» الإيطالية كشف عن مغادرة العشرات وربما المئات من عناصر تنظيم «الدولة» سرت نحو إيطاليا متخفين في القوارب التي يستخدمها المهاجرون غير الشرعيين. وأوضح التقرير، بالاعتماد على وثائق لـ»الدولة»، قال إن المخابرات الليبية عثرت عليها في أماكن سرية وتتضمن أسماء بعض قادة التنظيم وخططا لتنفيذ عمليات إرهابية، أن بعض أصحاب تلك الأسماء وصل إلى الأراضي الأوروبية، وخاصة الإيطالية، وفي محيط مدينة ميلانو بالتحديد.
خطة لاستيعاب «العائدين من سرت»؟

مع ذلك يبقى الخطر الأكبر مُركزا على حدود تونس والجزائر فإذا ما ضاق الخناق على من تبقى من الداعشيين في سرت، سيجدون أنفسهم مكرهين على العودة إلى بلدانهم بدل النزوح إلى بلدان أخرى، بوصفه الخيار الأقل خطرا عليهم. وينطبق هذا الأمر على التونسيين أكثر من سواهم بحكم التجانس بين البيئتين الليبية والتونسية وقلة المسافات. وتُقدر الأمم المتحدة عدد التونسيين المُجندين في صفوف الجماعات المسلحة خارج بلدهم بستة آلاف عنصر. واقترح الخبير العسكري محمد النفطي في هذا الصدد وضع خطة لاستيعاب هؤلاء والتمييز بين من ارتكبوا جرائم من أجل محاكمتهم، ومن لم يتورطوا في أعمال القتل، والذين يحتاجون إلى تأهيلهم للعودة إلى الحياة الاجتماعية الطبيعية، على أن تتم هذه العملية بالتنسيق مع مخابرات البلدان المعنية وبدعم لوجستي وفني من مؤسسات الأمم المتحدة.
وبالاضافة إلى احتمال انتقال قسم كبير من عناصر تنظيم «الدولة» إلى تونس والجزائر غربا والنيجر جنوبا، تشكل ترسانة الأسلحة التي يملكها التنظيم في ليبيا مصدر قلق يُؤرق بلدان الجوار. وتأكدت هذه المخاوف مع ضبط مخزن أسلحة مهربة من ليبيا شملت 17 صاروخا مضادا للمروحيات ورشاشات وقنابل في محافظة وادي سوف الجزائرية الحدودية مع ليبيا، زيادة على ضبط حرس الحدود التونسيين أسلحة ومتفجرات وذخائر كان مُتشددون يحاولون إدخالها إلى البلد، بالرغم من حفر خندق وبناء ساتر ترابي على طول الحدود مع ليبيا. وعكس الإجتماع الأخير لدول جوار ليبيا الشهر الماضي في عاصمة النيجر نيامي مقدار القلق من انتشار السلاح وتسرب العناصر المسلحة إلى أراضيها. وشددت الدول في ختام الاجتماع على ضرورة دفع الفرقاء الليبيين إلى تسوية سياسية سريعة لتجنيب المنطقة مخاطر الحروب وعدم الاستقرار، وهو الموقف الذي أكده لاحقا الاجتماع الوزاري للاتحاد الافريقي الخاص بالأوضاع في ليبيا.
إجمالا تراجعت سيطرة تنظيم «الدولة» في ليبيا من الساحل الأوسط المُمتد من بن جواد شرقاً (التي تبعد 600 كيلومتر عن العاصمة طرابلس)، إلى منطقة السدادة غربا (التي لا تبعد عن شرق مصراته سوى 90 كيلومترا) لتنحصر في منطقة محدودة في سرت. واعتمد التنظيم في تمدده على حاضنة مؤقتة ممثلة بأنصار القذافي، وعليه فهو مضطر للبحث عن ملاذ آخر بعد خسارة سرت. ويبدو المثلث الرخو الواقع في الجنوب الغربي للصحراء الليبية والمتاخم لحدود الجزائر والنيجر والقريب من شمال مالي، أفضل ملجأ للعناصر الهاربة من سرت. كما أن هذا المثلث يُتيح التواصل مع شقيق التنظيم في نيجيريا المعروف بجماعة بوكو حرام. واشتهر المثلث بنشاط واسع لعصابات التهريب والجماعات المسلحة، وهو ميدان صراع بين قبائل ليبية تسعى كل منها للسيطرة على تجارة التهريب والسلاح في المنطقة.
والأرجح في ظل هذه الإحتمالات المختلفة أن التنظيم سيجمع بين خيارات عدة فيُعاود تشكيل خلاياه في ليبيا ويوزعها بين المثلث الصحراوي والمدن الساحلية، إلى جانب محاولة التسلل إلى تونس والجزائر لتشكيل خلايا نائمة صغيرة العدد، بالاضافة لتسفير عناصر إلى أوروبا عبر البحر المتوسط. وبدأت تتوارد معلومات عن نزوح عناصر التنظيم من سرت إلى مدن أخرى في الشرق الليبي وخاصة درنة واجدابيا وبنغازي حيث انضموا إلى ما يسمى «سرايا الدفاع عن بنغازي». لا بل إن الموفد الأممي إلى ليبيا مارتن كوبلر أكد وجود خلايا نائمة للتنظيم في العاصمة طرابلس نفسها. ومن المحتمل أن يستثمر التنظيم تدهور الأوضاع المعيشية لليبيين في الوقت الراهن وشحة السيولة في المصارف وانتشار الفقر لاستمالة الغاضبين وضمهم إلى صفوفه، وخاصة منهم الشباب، بالاعتماد على إمكاناته المالية الكبيرة.

المصدر : القدس العربي

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :