مهمة خاصة في الصفحة رقم 5

مهمة خاصة في الصفحة رقم 5

تَنّوَه  

مايشبه ترسب التجارب والمعرفة

  • سعاد سالم 

عن تجربة طويلة من الكتابة عن فلسطين.

شارع الجمهورية 1996

في جريدة الجماهيرية، كانت الصفحة 5 مخصصة للسياسة، كل ما يتعلق بها من تحاليل وتقارير ومقالتي  وكنت أنا التي تم توظيفي وليتين عمنول 1994 قد اعتمدت كاتبة عمود (بدون تحفظ) في الزاوية اليسرى للصفحة الخامسة، وتلك كانت نافذة احتراف الكتابة اليومية كما دفعني إليها وقتها رئيس التحرير : عبدالرزاق الداهش، كانت في الواقع مهمة في غاية الصعوبة ألزمتني بالكتابة في الشأن السياسي المتركز في مجمله على القضايا العربية المعروفة ،عن فلسطين وانتهاكات اسرائيل ،وتغاضي المجتمع الدولي وهكذا، والقصة الثانية كانت العراق و ترند تلك السنوات عما رتبته الأمم المتحدة بعد التحالف الدولي لإخراج العراق من الكويت بما عرف ببرنامج النفظ مقابل الغذاء، موضوعات كانت غالبة على النشرات والأخبار وخصوصا أنها كانت فترة شبه مغلقة إذ أن التدفق الهائل للمعلومات عبر الانترنت لم نكن نتخيل حدوثه بل حتى الحسابات على الايميل كانت محدودة وفي مقاهي الانترنت كان لزاما كتابة الاسم وتقريبا رقم البطاقة الشخصية _كنت نسيت هذه الحقبة تماما- ،والستالايت كانت لدى النخبة الغنية فقط (للتمتع برفاهية الهروب للعالم ونشراته والتسلية أي كل ما لا يراه الشعب الحر السعيد)، ظهرت تاليا شركة شاع التي تقطع علينا كمشتركين البث كلما كحّ لخ القايد لنقل كحتّه مباشرة ، وهكذا وفي أجواء شبه مغلقة كان على عمود الزاوية اليسرى في الصفحة الخامسة من جريدة الجماهيرية (الجريدة الأكثر قراءة صدق/ي أو لا تصدق/ي)  أن يكون غنيا بالمعلومات والفهم الذي يتعدى ما يصل إلينا من أخبار متدفقة من طرف واحد هو التلفزيون الليبي ،و عبر حنجرة المذيع الأشهر ساعتها :محمد لقريو.

غوغل عمارة المرش

عرفت الطريق إلى الكنز المخبوء في الدور الرابع الممتلئ سقفه بالأنابيب التي تنبعث منها رائحة خانقة لابد أن تضايقني قبل أن أسحب من تلك الرفوف المتلاصقة والمرصوصة بالملفات المرتبة ترتيبا مريحا ،نظيفة و معنونة بمحتويات كل ملف، أسحب ما يهمني من موضوعات يخص المقال الذي أنوي الكتابة عنه، و اسحب كرسيا و أغرق في القراءة في أرشيف مميز من التقارير العربية والعالمية المترجمة عن كل شيء، أعني كان الدور الرابع حينها هو غوغل تلك الفترة التي برغم الخلط الهائل وتورط المجتمع في شكل واحد هو الشعبي عام غير أنه في نفس الوقت كانت تلك الإعاقات المتعمدة هي بذاتها تؤكد الفروقات الفردية بيننا في مستوى التحايل عليها ، لو وضح لكن ولكم ما أقصده. 

قبل الصفحة رقم 5 كنت أيضا كتبت تقارير اقتصادية مدعومة بالأرقام والاستشهادات في وقت سابق ، كما وجدت ما يغذي فضولي حول كل ما بدا ناقصا أو متشابها في الحكاية الأزلية فلسطين، وطوال أربع سنوات من الكتابة اليومية في العمود السياسي والذي قاسمته معي لاحقا: نعيمة العجيلي، بدت لي فلسطين تحديدا ليست قصة أرض محتلة، بل قصة واقع أن لا تكون عضوا في منظمة الأمم المتحدة، أتذكر تلك اللقطة التي في وسط الأشعار أو البكاء أو لمْعَادة الوطنية عن النكبة والنكسة والبترول العربي والوحدة العربية والتطبيع ، وغيرها من الدوشة المستمرة منذ أكثر من 76 عاما ، أتذكر تلك اليد التي تقشر خريطة اسرائيل لتظهر تحتها فلسطين، لكن حقا لماذا ألصقت إسرائيل فوق فلسطين؟ ولماذا يستمر نفس أسلوب التعامل مع ما سميت قضية برغم تأكد فشل الأسلوب المرة تلو المرة تلو المرة؟ لذا  أعتقد أن الجزء الأهم من المشكلة أننا لم نرَ هذه الاسرائيل، فماذا لو رأيناها هل تنتهي فلسطين؟ أششش قل الكيان، قل الصهاينة، قلنا.

فقه الهزيمة

لا أعرف من قال شيئا يشبه هذا: من الحمق أن نكرر نفس طريقة الحل لنفس المشكلة التي لم تُحل .

لطالما لفت نظري الغياب التام للهزائم في السردية المعتمدة للتاريخ المرتبط بالمنطقة العربية بصفة مؤكدة، وفي التاريخ الليبي بصورة أكثر تأكيدا، وهو أكثر شئ يدعو ليس فقط للقلق من فكرة الاعتماد على هذا التاريخ ولكن أيضا لخطورة ما ينتجه التضليل المعرفي ليس بالكذب فقط ولكن بتجاهل القصص المزعجة وبالتلاعب باللغة، أعني لتجاوز الهزيمة يجب أولا الاعتراف بها، ثم البحث في أسبابها، ولاحقا تجنب الأخطاء في محاولات التصحيح أو الاعتراف بتواضع القدرات اللازمة لتحقيق النصر وعليه البحث عن مناطق أخرى نعرف أننا نملكها أو نرتب على أن نصب اهتمامنا لنطور قدراتنا فيها.

فالهزيمة أشكال ، وأكثرها تحطيما هي العودة لنفس الخصم بنفس الأدوات والأفكار التي هُزمنا بها.

وللنصر أيضا أشكال مختلفة أهمها وأكثرها استدامة أن نترك الخطابة وشعر المعلقات لحصة القراءة في المدارس ،وأن لا تكون ذواتنا المتضخمة لسبب نفسي يتعلق بالإنكار ، تطيح ببقايا المنطق وتوسوس لنا بأن نجلس تحت الميزاب ننشد:

ونشرب إن وردنا الماء صفوا ويشرب غيرنا كدرا وطينا

إذا بلغ الفطام لنا صبي ، تخر له الجبابرة ساجدينَ . 

 بالتأكيد شعر بديع يتوافق وعقلية تلك الأزمان، ولكن الهزيمة في الحروب التي دخلها الفلسطينيون والعرب مع اسرائيل كانت خاسرة، بما فيها الصحافة والبرامج والوثائقيات والمؤلفات ووصولا إلى خطط المقاومة التي تجمدت عند مظهر واحد فقط، كلف الفلسطينيين أنفسهم ثمنا أكبر مما كلف عدوهم. فيما علي أن أعترف أن الغناء فقط هو الذي نجح، الموسيقى تجعل كل شيء مستساغ وتوفر بيئة مثالية للخيال.

ما يمكنني قوله هنا أن وعد بلفور 1917 الذي لخصته الجملة اللي تشبه عزّارة أكثر منها جملة منطقية ( منحت مالا تملك إلى من لا يستحق)إنما هو تسليم بالصورة النمطية للضحية وهو ما غطي على حقيقة مؤلمة مفادها: التجاهل التام لترتيبات ما بعد الحرب العالمية الأولى ، وهي الحرب التي وقعت بين قوى الحلفاء  أبرزها (بريطانيا،فرنسا، روسيا والامبراطورية اليابانية والولايات المتحدة) والتي هزمت قوى المركز (ألمانيا، الإمبراطورية النمساوية المجرية والإمبراطورية العثمانية وبلغاريا) وأنها وراء وجود 21 دولة عربية أعضاء في الأمم المتحدة استكمالا لما بدأته فرنسا وبريطانيا في الاتفاقية المعروفة بسايكس-بيكو ليست من بينها دولة فلسطين لغياب النصر،ولضعف إدارة الصراع ، فيما اعُترف بدولة إسرائيل العام 1948 الذي سمي نكبة وكأن الهزيمة كارثة طبيعية زي زلزال أو تسونامي.

سايكس-بيكو :الاتفاقية بين بريطانيا وفرنسا في 1916 لتقاسم مناطق النفوذ والسيطرة على الموارد والأراضي في أوروبا وخارجها وهي التي شكلت خريطة العالم الحديث وحتى التاريخ السياسي للعديد من الدول. 

الاجتزاء المتعمد

هل قرأ البعض رواية حلم السلتي؟ هل قرأ البعض شيئا عن تاريخ ايرلندا ؟هل شاهد البعض وثائقيات الحرب العالمية الأولى والتي ظلت تاريخا خافتا أمام وثائقيات الحرب العالمية الثانية؟

أطرح اسئلتي فقط لأقول أن التاريخ الأقرب الذي يتم التركيز عليه سيخفي أسباب وصولنا إلى اللحظة الحالية من التاريخ ،وبغير رؤية ما يجعلنا ندور في ذات المكان، لن نعرف على الإطلاق كيف نتحرك إلى الأمام. 

____ ملحوظة: الفقرة الأخيرة يمكن تطبيقها على مستوى الدولة ،أو على حالة الفرد الشخصية لمن لا تعنيه ايرلندا ولا حتى فلسطين ولا الصفحة 5 من جريدة سقطت مع نظامها.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :