ثم مضيت

ثم مضيت

  • قصة قصيرة : أحمد حمدوني

  وقفنا لساعات بمحطة القطار ننتظر قدومه فانتهينا إلى سكة حديدية تداولت عليها جحافل الكلاب الضالة تبرزا، رأيت في أعين من اعتادوا الانتظار استسلاما وفي أعين اللصوص والمتسولين خيبة وكنت لا أرى فيما رأيت فائدة من الانتظار ولا جدوى من الذهاب إلى العمل في هذا اليوم، ترجلت بين أزقة المدينة متسكعا أتقلب بين الخطأ والصواب فيما فعلت وأخذت أداول بين فرضيات لا أجد في أفضلها غير انعدام الفائدة والجدوى من كل شيء وما إن كان بيني وبين غرقي في عباب أفكاري المتلاطمة فكرة وبيني وبين الموت على يد سائق متهور بعض الخطوات حتى اهتز قلبي لدوي انفجار وتسمرت مكاني لا أقوى على الحراك، كنت على عكس أولئك الذين هرعوا في مناوبة بين ركض وهرولة نحو مصدر الصوت وارتسمت على وجوههم سعادة على أمل أن يجدوا في الواقعة ما يخلصهم من شراك الملل، تأملتهم وتحركت نحوهم لعلي أظفر بنصيب من المتعة التي توزع هناك في مقهى قريب انفجرت بداخله أسطوانة غاز منذ قليل وتجمهر حوله الحشود مشاهدين متسائلين، وقفت على مقربة من بابها أراقب ما حدث وما يحدث حتى تسلل إلى أذني صوت رقيق : تفضل بالدخول يا سيدي نحن نقدم أجود أنواع القهوة و أفضل الحلويات مذاقا وجودة…

لبيت دعوة النادلة و سرت خلفها، كانت تمشي وتزيح أشلاء الموتى بطرف نعلها ذو الكعب العالي في آن لتفسح السبيل نحو ركن مريح، اختارت لي طاولة تليق  بزبون جديد ثم أحضرت كوبا من القهوة المستوردة من بلد شقيق، اعتدلت في جلستي وشعرت بشيء من الراحة في جو يفيض برائحة العروبة في المذاق و في أنين جريح عربي لم يفارق الحياة بعد .

شاب في مقتبل العمر يجمع شظايا الأسطوانة بين بقايا الجثث المنتشرة ليبيعها بسوق الخردة مساء، يرفع كفا مبتورا من الأرض فينزع عنه شظيته ثم يلقيه ويمر.

زبون يتأفف في انزعاج لتأخر النادلة عن إزالة الأشلاء التي تطايرت وتراكمت فوق طاولته، علمت من قوله إنه كاتب

كان يغرق في كتابة رواية ينتصر من خلالها لحقوق البشر حين وقعت الواقعة ويزيد أن لا غرابة في جهل نادلة بمقام مثقف يتجرع المرارة كل يوم في سبيل النهوض بوعي البشر.

في المقهى المنكوب بزبائنه شيخ يغازل فتاة شقراء يشير بطرف ذيل عمامته نحو مقصورة فتسبقه إليها.

ثم تغادر بعد لحظات إثر شجار نشب بينهما حول تفاصيل تقنية وعلِمْنا في هذا أن الشيخ يمتنع عن نزع ملابسه ولم أر غرابة في قراره، هو مثلنا يخاف التعري أمام نفسه والآخرين.

غادرت المقهى وما إن كنت على مسافة منها حتى سمعت دوي انفجار آخر يهزها، ابتسمت ومضيت في طريقي متأملا المارة وما يجمعهم فكان من بينهم طفل يسأل أمه: لماذا جئنا إلى هذه الحياة يا أمي؟

حرك السؤال بداخلي رغبة في العودة إلى المقهى فعدت.

لم يكن هناك وجود لمقهى أو نادلة فكل ما كان هناك لا يزيد عن بناية مزخرفة تعلوها لافتة كتب عليها”مركز الانتخابات”

تيقنت حينها أني الوحيد الذي يرى الأشياء من زاويا أخرى وأننا جئنا فقط لكي نعيش المأساة بكل تفاصيلها فابتسمت إلى اللافتة ثم مضيت.

شـــارك الخبر علي منصات التواصل

صحيفة فــــسانيا

صحيفة أسبوعية شاملة - منبع الصحافة الحرة

شاركنا بتعليقك على الخبر :